اقتباس الصمت

سعيدة البرعمية

على رفِّ إحدى زوايا المكتب أوراق قديمة كساها غبار الزمان، أيقن كاتبُها أنها رواية اغتالها غدر القلم، وبين حالة من تلك القناعة ورغبة منه في استكمالها، تناولها وأخذ ينفض ما علق بها من غبار؛ فوقع نظره على عبارة "لا تقتبس صمتي فهو عاصفة، وشدة العاصفة تقلب الموازين؛ فتُجبر المحتل على المطالبة بالاستقلال".. رفع نضال رأسه إلى الأعلى، ثم أعاد النظر إليها مُتأمِّلا قوة العزيمة فيها، ورونقَ بلاغتها وعمقَ دلالتها.

ترك الأوراق جانبا على سطح المكتب وخرج متجها إلى البحيرة الواقعة على الجهة الشرقية من المنزل، جلس بمحاذاتها يتأمل مياهها المتموجة بهدوء حالم، ودارت في نفسه عقد بعض الموازنات: "عبارة وبحيرة" "عاصفة ومحتل"، وقع نظره على صخرة عريضة بجانبه جلس عليها وأخذ حجارة صغيرة وقذفها بعيدا في وسط البحيرة، فشده مشهد ارتطام الحجارة بالماء، وصوتها الآسر عند معانقتها عُمق البحيرة؛ فعاود الكرَّة مرارا، حجارة تلو الأخرى؛ فأدرك أنه يجب استبدال الحجارة بوسيلة أخرى تحرك شدة العاصفة؛ فالفيضان لا يواجه إلا بسدٍّ منيع، لقد أشعلت تلك الحجارة ضجيج العاصفة داخله، وأيقن أنه يجب أن ينتهي عهد الحجارة الذي قسا عليه أن لا ممكنَ، وأوهمه بأن الغد مصاب بمرض عضال قد أفقده مجمل عافيته، وأن الأيام تأبى زيارته. قذف آخر حجارة بقوة مضاعفة ونهض راجعا إلى بيته بخطوات يحركها ضجيج عارٍ، وصاح بأعلى صوته: "لتكتمل الرواية ولتسقط الضحايا ولتعود الأرض وليُدحر المحتل". دخل المنزل متجها لغرفة المكتب، وتناول القلم وبدأ يسرد بعض الأحداث، دخلت عليه ابنته زهرة المدائن، حزينة مستاءة؛ وضع القلم وأجلسها إلى جواره.. قائلا: "ما بك يا بُنيتي؟"، وضعت رأسها على صدره وأجهشَّت بالبكاء، توقف عن سؤالها واحتضنها؛ فقد أدرك مصابها، فحكاية الإحدى وعشرين شجرة مع الشجرة الوسطى لا تهدأ ولا تطيب، يخذلنها كلَّ حين، أخذ يمسح على جبينها ويقول: "لا بأس يا بُنتي، لا بأس يا زهرتي، سنقف من جديد". وبعد لحظات من استجماع شتات نفسها في حضن والدها، مسحت دموعها متسائلة: "أما آن الأوان يا أبي لموقف يعزِّز المعاني والقيم في ذاتي؟ موقف يشعرني أنني أسند ظهري لبستان طيب، أصله ثابت وفرعه في السماء؟".

"آآآه يا بُنيتي، لقد كانت الشجرة الوسطى كثيرة الأوراق، وارفة الظلال كنّا نلعب تحت ظلّها، نصلي في محرابها، لا تخضع لقانون الطبيعة؛ فقد تصالحت مع كل فصول السنة، عاهدها فصل الخريف ألا يسطو على أوراقها، في كلّ ورقة من أوراقها حكاية من عبق الماضي، وعلى أحد أغصانها عُلِّق فانوس يُضيء ليلا، يُعانقه دفء الصباح وتأوي إليه الطيور كلَّ مساء. وقد كانت بقية الأشجار متصالحة معها، إلى أن أصابها ذلك المرض واستوطن جذوعها، ونال منها، وكان ما زاد معاناتها مع المرض موقف باقي الأشجار وعدم اكتراثهن لما حلَّ بها؛ لذلك أخذت أسقامه تتعداها وتصل إليهنَّ جميعا.

تقاطعه زهرة متسائلة: "ونحن؟ ما دورنا؟ أنقفُ هكذا مكتوفي الأيدي دون أن نجد لهذا المرض علاجا؟ أهكذا نتخلى عن محرابها، وظِلّها وفانوسها؟ إنْ خسرناها سنخسر كلَّ شيء لا محالة".

لم ينطق نضال بكلمة واحدة، وخرجت زهرة لا تدري كيف تفسِّر ذلك الغموض، الذي يغشى كلّ ما حولها، فيسجل في دفتر أحزانها تاريخا آخر من الانتظار والخذلان، ضاق صدر نضال من حديث ابنته وخرج إلى الشارع هائما على وجهه، لا يدري أين يولي وجهته، ظلَّ ساعتين يمشي، لا يُدرك من أمره شيئا، سوى رغبته بقطع أكبر قدر ممكن من المسافة، لا يرى سوى الرصيف الذي يمشي عليه، شعر بالتعب؛ فتوقف وجلس على أقرب كرسي يقابله في نهاية ذلك الممشى، وعلى كرسي آخر بجانبه يجلس عجوز بثياب رثّة، ولون برونزي غامض، قد جادت به خيوط الشمس عليه، يستُره نهارا ويتدفأ به ليلًا، نظر إليه نظرة مليئة بالأسئلة؛ فتاهت علامات التعجب والاستفهام في تعرجات تجاعيد وجهه؛ فصرف النظر إلى الكتاب الذي يمسكه بيده، وإلى حذائه الممزَّق، ثم إلى عينيه اللتين تتسليان بالنظر للمارَّة.

شعر العجوز بتفحّص نضال لحالته؛ فرمقه بنظرة، تختصر له معنى ما يدعو إليه مبدأ غض النظر، من تهذيب النفس، ثم عاد العجوز لمواصلة القراءة، خجل نضال من نفسه وكانت هذه النظرة كفيلة بأن تجعله يغادر المكان، ويقطع هذه المسافة ذاتها راجعا لبيته، واضعا ما حلَّ بالشجرة الوسطى نصب عينه، دخل البيت، تقدَّم نحو المكتب، أخذ يُلملم أوراق الرواية ووضعها في ظرف أحمر، وأعادها إلى نفس الرَّف الذي كانت عليه. دخلت زهرة على أبيها تقول: "متى رجعت يا أبي؟ افتقدتُك كثيرا، وأين الرواية التي تنوي إكمالها؟".

يجيب: "لقد أيقنتُ يا بُنيتي أنَّه لا فرق بين أنْ أكتب رواية من عدَّة فصول، أو أن أكتب مسرحية بمشهد واحد، يطُول عرضه ويتكرَّر، إلى أن يفنى مُشاهدوه؛ لذا سيلزم رف الزمن في ظرفه الأحمر، يستشعر حبّي وغضبي من أجلها، ومن أجل الدّرة وكل الدُّرر التي انتُزِعت عنوة مِنّا".

تعليق عبر الفيس بوك