علي بن سالم كفيتان
لقد التصق اسم طفول بظفار ولا أعلم سبب لذلك التناسخ الروحي بينهما حيث تروي بعض الحكايات الثورية أنَّ طفول هي الشهيدة الأولى في حرب ظفار فقد ظلت تُقاوم ببندقيتها بكل بسالة حتى سلَّمت روحها لبارئها ومن ثمَّ صارت أيقونة للثورة، ومنذ ذلك التاريخ حملت مُعظم الفتيات اسم طفول، كما حملت ظفار ذات الاسم رمزياً في معظم الأدبيات التي كتبت في ذلك العصر.
يقال إنَّ طفول تحمل روحاً طاهرة حلقت في سماء المعارك فكانت تهب الثائرين مخزوناً معنوياً لا ينفذ؛ فقد كان الكل يثأر لها منذ أن لفظت أنفاسها الأخيرة في جبال حوف حسب ما يُروى وما زال قبرها يشكل مزاراً لكل التواقين للحرية والكرامة؛ فرغم اختلاف الزمن إلا أنَّ القيم والمبادئ لا تضمحل بغياب الأشخاص، ومع أنَّ طفول حملت السلاح وحاربت إلا أنها لا تؤمن بالفكر الشيوعي المقيت الذي أُلصق بها وببقية الرجال والنساء الذين ثاروا حفاة ضد الظلم والطغيان في تلك الحقبة، فقد قال السُّلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- كلمته المشهورة عندما سُئل عن الثورة، فقال رحمه الله: "لم يكن أمامهم خيار آخر سوى ذلك"، فانغلاق الأفق يدفع لخيار المُواجهة.
طفول سهل، وفاطمة مسعود، ومنى سالم، وفاطمة غنانة، ونور عوض وغيرهن، خضن نفس المُواجهة الصعبة وأثبتن بما لا يدع مجالاً للشك أن المرأة العُمانية كانت حاضرة وبقوة في سجل النضال؛ فجميع تلك الأسماء حملت السلاح، ودافعت عن الحرية والكرامة، جنباً إلى جنب مع الرجل، فسطرن أسماءهن بأحرف من نور في سجلات النضال وعندما نتحدث عن الثورة نعني الوقوف في وجه ترسيخ الجهل وانتشار الفقر واستشراء المرض، فقد كان هذا الثالوث منتشراً في كل أرجاء عُمان لذلك بادرت تلك الأرواح التي أنهكها الزمن لاسترداد النفس الأخير في الحياة فدفعت ثمناً باهضاً من أجل جميع الأجيال التي لحقتها وكانت المرأة العُمانية سواء كانت مجاهدة وتحمل السلاح أو تقوم على رعاية الأبناء أو حماية الماشية أو سقي الحقول الخضراء التي تغذي ذلك الجهد الوطني القادم من بعيد كلها أدوار جليلة نسجتها العُمانيات وأثبتن أنهن ركن الزاوية في هذا الوطن بعيداً عن الأيدولوجيات والأهداف السياسية التي كانت تحكم خيارات المُنظرين والقادة الميدانيين لتلك الحركات التحررية في مختلف أرجاء وطننا.
تقول الرواية إنَّ طفول سهل كانت ضمن مفرزة نسائية في جبال حوف تقوم بمهمة روتينية لحراسة مُعسكرات النساء ومُخيمات اللاجئين ومدارس الثورة في المنطقة المحاذية للحدود، فتعرضت تلك المفرزة لإطلاق نار كثيف وقصف جوي عنيف استهدف المناطق الجبلية التي كان يجوبها الثوار ومدرسة حوف ومقر الثورة في الطرف الآخر، صمد الجميع في مواقعه ولم تتزحزح المُناضلة واستمرت في الدفاع عن موقعها لساعات أمام هذا الهجوم الشرس ورغم صيحات قائد المفرزة والثوار الذين حضروا كإمداد لتلك المجموعة، إلا أنَّ بندقية طفول لم تصمت وظلت ترد على مصدر النيران المُعادية ويقال بأنها أصيبت إصابات طفيفة في المرة الأولى ثم انسحبت لموقع آخر واستمرت في المواجهة حتى كتب الله لها الشهادة في وادي صغير يطل على قرية حوف؛ فكانت آخر نظراتها للحلم الذي كانت تحرسه إنها المدرسة والعيادة الطبية ومقر قيادة الثورة، وجميعها في ذلك النهار تعرضت للتدمير وتمَّ نقل حوالي 300 طالب لكهف كبير في وادٍ مجاور لحمايتهم من القصف الجوي الذي امتد لنهار كامل، وفي المساء تسللت مفرزة نسائية لموقع طفول فوجدوها ممسكة ببندقيتها مضرجة بدمائها وما كان منهم إلا أن حفروا لها قبراً بجانب موقع صمودها الأسطوري ودفنوها هناك.
ستظل طفول وبقية رفيقاتها في النضال رمز العزة والكرامة العُمانية وستستمد منها كل النساء العُمانيات في العهد المُتجدد لمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- روح الجلد والدفاع عن كل شبر من عُمان، فنساء عُمان اليوم اقتحمن سجل العمل العسكري والأمني وأثبتن جدارتهن بعد أن تم تمكينهن من ذلك في عهد المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- وعندما تروى مثل حكاية طفول ما هي إلا ترسيخ لمبدأ الصمود الأزلي لسيدات عُمان ودورهن البارز في حماية مكتسبات الوطن.