10 يناير .. الذكرى الحزينة

 

عبدالعزيز بن محمد الغافري

لا أبالغ في القول بأن الدموع التي نزلت من مآقي عيون أهل الغبيراء في فجر الحادي عشر من يناير تشبه أفلاجها المُنسابة من أعالي الجبال في قوة جريانها ولكنها حزينة الرؤيا معتمة اللون تتجرد من (مسحاة) الفلاح وتتوقف عند (الصوار) الذي اعتاد في كل صباح أن يسمع مع خرير الماء المتدفق منه ذلك الصوت المُتفائل بنهضة وطنه الحديثة في شجن الكلمات ونغمة الحناجر الفريدة المألوفة لدى كل عُماني، إنها مشاهد الحب في وقت الحزن فتأملت العيون وزحفت القلوب نحو شاشات التلفزيون لعلها تكذب الخبر فهي في خيال الصدق تعيش وفي حقيقة الواقع تتأمل ولكن صدى الصوت كان قد وصل إلى حصون عمان الشامخة وارتفعت من مآذن الجوامع والمساجد دعوات عُمان الصادقة الوفية وقبلها صوت تلك الطاعنة في السن وذلك الكهل الذين عاصروا الحياة  بلغة العامة العفوية (الله يرحمك أبونا، الله يرحمك يا الغالي، الله يسكنك مساكن الرحمة، إلخ).

بقينا طوال اليوم (مرتزين) أمام شاشات التلفزيون في صمت حزين ونفسيات وجلة من فراق زلزل العالم كيف لا وعُمان لم تتخيل نفسها بدونه والشعب لم يرَ غيره ولم يعرف العالم إلا به فمشهد الوداع كان مهيباً بقدر ما كان فاجعاً.

لا أعلم عن ماذا أكتب ولا أستطيع أن أحدد بداية لهذه الكتابة اليتيمة ولكني أحاول أن أجمع شتات أفكاري قدر المستطاع من ظلام دامس إلى نور ساطع فهذه البداية من لفظ إحدى أمهات عُمان وهي تتابع لحظات أخبار الوفاة وتقول (نورتها عُمان ودعيتها فاتحه بن سعيد) وهي تقصد انتقال عُمان إلى بلد متطور في مختلف المجالات وأصبح يضاهي الدول المتقدمة في إنجازاته الواسعة فأصبح لها كيانها السياسي المستقل وكان لقيادتها العظيمة التفرد في إدارة الحكم وكان لها دور مؤثر في السلام العالمي.

 

لقد انتقل الإنسان العماني من (بيت السعف إلى البيت الحديث المتكامل) ومن( سراج بوسحة إلى الإضاءة الملونة) ومن سيارة  (البيدفورت إلى أرقى السيارات وأحدثها) ومن طبقه الرئيسي اليومي اللبن والسمن والتمر إلى أطباق الطعام المتنوعة ومن (بل الشرشف في فصل الصيف بالماء إلى أجهزة التكييف الحديثة ومن التعليم تحت ظل الشجر إلى أرقى مباني العلم والمعرفة ومن حلوى(التغاليف) إلى أواني الزخرفة والتصميم إلى غيرها الكثير من أدوات التطور والتقدم.

لقد كان جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه صاحب رسالة واضحة وبفضل حنكته وقيادته الظافرة فقد تحققت ولله الحمد وتتجلى إنعكاساتها على كل شبر من عُمان وعلى مستوى دول العالم أجمع.

لم تكن المُهمة مفروشة بالذهب وإنما بحرب ظالمة اجترت البلاد إلى الجهل والتخلف والفقر لذلك كان الدرب شاقاً لكن كانت العزائم جبارة وكان الفكر سليماً متقدًا فاجتمعت عُمان على كلمة واحدة وانتشرت كلمات المصالحة والعفو ولبى أبناء عمان النداء من كل مكان فقويت اللحمة وأينعت الأرض وأغدقت السماء تباشير الخير .بدأ الليل يكشف ستاره عن عُمان رويدا رويدا وبدأ الصبح يسري في كل شبر من أرضها تنمية شاملة في التعليم والصحة والخدمات الضرورية التي يحتاجها المجتمع فكانت العدالة منهجاً لتوزيع هذه الخدمات.

جولة سنوية تقطع المسافات عبر شوارع متهالكة وأودية ساحقة وجبال شاهقة لكن آتت أكلها نتيجة الأوامر السامية المباشرة فهم جلالة السلطان طيب الله ثراه راحة شعبه وتوفير متطلباته فهو يسهر طوال الليل بتفقد مركز صحي أو مدرسة أو مبنى للخدمات وفي كثير من الأحيان يفترش غطاء السيارة ليضع خارطة مشروع يتفقده أو يستخدم الكشاف لرؤية طلبات المواطنين ليقف عليها بنفسه.

مع حجم هذه المسؤوليات وتعددها وتنوعها كانت عُمان تتطور وتتقدم وتقدم نماذج للعالم في مختلف المجالات السياسة والثقافية والاجتماعية فأصبح الإنسان العماني له بصمته على خارطة العالم.

عُمان بلد عظيم جال وصال في العالم منذ زمن بعيد لذلك ظل هذا النهج مستمراً في عهد المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس من خلال العديد من الجوانب السياسية في العلاقات المتطورة مع جميع دول العالم وكذلك دورها في تقريب وجهات النظر لحلحلة المواضيع المعقدة كونها البلد صاحب النهج السياسي الموثوق من العالم وأيضاً دورها الثقافي من خلال تعاون السلطنة مع المنظمات الدولية والمساهمة مع بقية دول العالم في إقامة المشاريع الثقافية ويتجلى هذا المشهد أيضًا من خلال الكراسي العلمية في أعرق جامعات العالم والتي تحقق الكثير من الأهداف المتعلقة بالثقافة والتاريخ والتراث واللغة. بعد هذا المشهد كله من التضحيات الغالية والبناءات العملاقة والإنجازات الشامخة تقف عُمان وقفة التاريخ بجلاله وعظمته تغازل العالم بأعين مشرقة متطلعة لغد مشرق وأمل مشحذ الهمم والطاقات تقول كلمتها في كل محفل وتتخذ مواقفها من تاريخ عظيم له نهجه وثوابته متمسكًا بعقيدته وعروبته.

إنَّ الحديث عن رجل عظيم ليس بالسهل لأنك لا تعلم من أي شيء ستغرف من هذا البحر  فكل البحار كانت تاريخاً عظيماً مطرزاً بالمفاخر، اللهم ارحم جلالة السلطان قابوس واسكنه بفيض كرمك جنات النعيم. هذه سنة الله في خلقه ولا نقول إلا مايرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون.

تعليق عبر الفيس بوك