قيمة الأوطان

ربيع بن صالح الأغبري

قد عَرف الوطن بأكثر من تعريف، ذهب فريق إلى أنه قطعة أرض يسكنها مجموعة من البشر، وعرفه آخر على أنه المكان الذي ولد وعاش فيه المرء، وهناك تعريفات كثيرة، ولكن اقتصرت في مفهومها على أنَّ الوطن، يخصُّ الإنسان، وبهذا التعريف جردت باقي المخلوقات من الأوطان، وأقول في تعريفي للوطن، هو عبارة عن مساحة كانت في برٍّ واسعٍ أو في أعماق بحر، أو في فَضاء أو في جُحور وأغوار تحت الأرض، تعيش فيها مجموعة من الكائنات؛ إذ لا يمكن حرمان غير الإنسان من كلمة وطن لأن لكل كائن على هذه البسيطة وطنه الخاص، وتجده على استعداد دائم للدفاع عنه، ويعمل على تأمينه والنأي به عن الأخطار، لينعم فيه بالأمن والأمان.

لذلك؛ فكلمة وطن ليست كلمة بسيطة كباقي الكلمات، وليس من الممكن أن تمرَّ على صاحبها مرور الكرام، ولم يكفِ أنْ نُقلقل بها اللسان، بل هي كلمة عظيمة جليلة القدر والمعاني، متربعة القلب، ساكنة العقل والوجدان، ولها قيمة الروح، بل هي والروح سيَّان، لأنه مهوى القلوب ومَكْمَن الراحة والطمأنينة والشعور بالأمن والأمان، وإذا ما ذُكر الوطن ذُكر التاريخ والمجد والعزة والكرامة والعنفوان، وأي كائن على هذه البسيطة، ليس له قيمة دون وطنه، الذي ينتمي إليه وينتسب، وليس بعاقل من يقُول يُمكن استبدال الوطن بأوطان.

ومن يُقلب المجن عليه، أو يهجره، بأسباب مادية ولا أعني أن يُهاجر من أجل كسب المعيشة والبحث عن الرزق، إنَّما أقصد بالهجر البغض ومُعاداته واستبداله بوطن آخر، مقابل سقط المتاعب أو فتات لا يساوي جزءًا من ذرة ترابه، أو التولي إذا ما دقَّت طبول الزحف، وتركه إذا ما عصفت به المحن والأزمات؛ فأقول لمن يفعل ذلك قد جانبت الصَّواب لأنَّ الوطن غالٍ عظيم لا يُمكن أن تنساه الروح والقلب والجوارح مهما تُقلبت الأمور والأحوال، ويُفدى بالأهل والمال والأولاد، ولا يستبدل بأغلى المعادن، لأن ليس حاله حال البورصات التي يتحكم فيها السماسرة والتجار، بل هو أكبر وأعظم من كنوز الدنيا، ومناصبها، وهي أمامه لا تتعدَّى عن بضاعة إخوة يوسف وهو مُقدَّس عند جميع الشرائع، وقبلها وبعدها قدسه الإسلام؛ لذلك من قضى نَحبه من المسلمين في الدفاع عنه وعد بالجنان، وجاء ذلك في حديث شريف من صاحب المقام الأعلى محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

ومن هنا، يخطئ من يعتقد أنَّ حبَّ الأوطان مربوط بقدر ما تُدر له من ثروات وأموال، لأنَّ الأوطان لا تُوزن بالجواهر واللآلئ والزمرد والمرجان، ولما بشر الله المجاهدين والمدافعين عنها قبل 1400 عام بجنة عَرضها السماوات والأرض، لم تكُن موجودة ما ذكرت من المعادن والجواهر بشكل مألوف، وناهيك عن النفط والغاز وجوهر العقيان.

فالوطن كان عبارة عن صحراء، تلفح الوجوه من حرارتها، ومن شدة سقيعها تتقطع الأجساد، أو جبل قاسٍ يفتقر لأقل مقومات الحياة، وكذلك تستوطنه الكواسر والضواري والسباع، فتنازع ساكنوه رزقهم، ولطالما فتكت بفلذة الأكباد، وفوق هذا كان الوطن غاليا بمعنى الكلمة، وتغنَّى به العرب في قصائدهم وأشعارهم، وخلدته معلقاتهم وكان أنيسهم في عيرهم أو على صهوات الجياد، وسكبوا له دمعهم ودماءهم، وجاهدوا من أجله جهاد الفارس المُستبسل المقدام، حتى لا يشرب العدو من أنهاره وسواقيه قطرة من ماء، وقد قال ابن الرومي:

ولي وطن آليت ألا أبيعه // ولا أرى غيري له الدهر مالكا

وقال عنترة العبسي: يا دار عبلة بالجواء تكلمي // وعمي صباحا دار عبلة فسلمي

هل سأل أحدنا نفسه: ماذا وجد عنترة في دار عبلة، والتي هي داره ووطنه، ربما لم يجد إلا الجفاء والازدراء، نعم يتملَّقون له الأمراء وكبار القوم إذا ما أرادوا منه النجدة والجيرة، وفي حقيقة الأمر لم يحصل منهم على الحظوة الحقيقية، وقد وصل استخفافهم إلى أنهم رفضوا تزويجه ممن اختارها واختارته بحجة واهية سقيمة، وفوق ذلك لم يخلط الأمور ولم يزهد في وطنه، وقضى عمره بين رمحه وسيفه وجواده، وهو يُناضل ويجاهد في سبيل وطنه تارة بسنانه وأخرى بلسانه، وقضى نحبه وهو على صهوة جواده في إحدى معارك الدفاع، وعلم التاريخ صدق حبه ووفائه لداره، فأخذ على عاتقه أنْ حفظ له ما كان منه من عظيم أفعاله وأشعاره، والتي تجسدت في حب قومه وأوطانه. وولدَت الأمة من أمثال عنترة الكثير من الأوفياء المخلصين، وقد عاشوا في مهجرهم، مُنعَّمين ولكن لم تكن لتلك النعم أي أثر عليهم؛ لأنَّ بعدهم عن الوطن وحبهم وتعلقهم به، كان ينغص عليهم عيشتهم، وهذا ما كان عليه عالم الشعراء وشاعر العلماء العلامة الفقيه القاضي العماني أبو مسلم البهلاني؛ فكان جسده في إفريقيا، وروحه تحلق في أرض الأجداد، وكان كل شيء يذكره بوطنه حتى همهمت رعده ووميض برقه والمتتبع لأشعار وقصائد أبو مسلم سيعرف من خلالها كيف عاش محافظا على حبه وولائه لوطنه؛ إذ تراه يفصل وطنه في أشعاره تفصيلا دقيقا رغم اتساع رقعته، وإذا هو يذكره مدينة مدينة قرية قرية، حارة حارة، واديا واديا، وهذه هي الوطنية الحقيقية والتي لا جدال فيها، ولا تقبل المعادلة، فكانت وطنية فوق كل الحسابات المادية والشخصية.

ولا ننسى قبل 1970 ماذا فعلت الغربة بالآباء والأجداد، كيف جابوا الشرق والغرب وركبوا البحار والخلجان، بحثا عن الرزق، وعندما أقول الرزق أعني ما يسدُّون به رمقهم في مهجرهم؛ فكانوا لا يحصلون حتى على الفتات، ناهيك عن المعاملة التي لاقوها في مهجرهم؛ إذ بلغت من القسوة وسوء المعاملة ما لا أحد يتحمله ويتصوره من العربان، فعَاشوا في المهجر بين المطرقة والسندان، مطرقة الغربة وشظف العيش، وسندان القسوة وسوء المعاملة، ونتيجة ما لاقُوه تضاعف اشتياقهم لوطنهم؛ إذ أخبرني أحدهم -رحمه الله- بأنه رسل رسالة لأهله ليس فيها أي كلمة، بل كانت تحمل فحمة سوداء. وعندما وصلت لأهله، فهموا ما يقصد بالفحمة المرسلة، كان القصد منها تعبير دقيق وموجز دون أن يطيل الكلام لأن لو سطر ما سطر، لما استطاع أنْ يُخبرهم عمَّا يُعانيه ويقاسيه وما يشعُر به من لوعة ومرارة وفراق الأهل والأوطان. وبالفعل قد وصلت رسالته الدقيقة في التعبير الموجز إلى أهله في وطنه الغالي عُمان، وعندما فتحت أمام أمه وأبيه وزوجه وأخيه، انفطرت قلوبهم وأحسوا بألمه فبكوا بكاء حارا بعد ما فهموا من رسالته بأن قلبه احترق من شدة الشوق للأهل والوطن؛ فأصبح لا يقل سوادًا عن الفحمة التي أرسلها واختارها للتعبير عن مشاعره وأحاسيسه وهواجسه نحو الوطن وأهله.

لكن: هل اقتصر حب الأوطان على بني الإنسان؟ بالطبع لا؛ بل جاوز الطير والحيوان؛ إذ ليس هناك كائن إلا وينتمي لوطن يعشقه ويضحي من أجله ولو نظرنا إلى الإبل؛ لوجدناها وفيَّة عاشقة لأوطانها ولو تغرَّبت من دار إلى دار، يظل حنينها وعشقها ووفائها لوطنها الأول، حنين غريب قد يفتقِر إليه كثير من البشر، وشاركها في ذلك العصفور الذي لم يتنازل عن وطنه بذهابه إلى الشرق أو الغرب، وبتحليقِه في السماء أو الأرض، كل ذلك لم يُنسِه حنينه وانتماءه لوطنه الصغير، وهو عبارة عن شجرة ذابلة متهالكة، أو عن جحر صغير في جبل أو باطن الأرض، وترى الحيات والجوارح تغيِّر عليه بين الفينة والفينة فتدمره، أو تأتي عليه عوامل الطبيعة فتبدله وتغيره.

وفوق ذلك المواطن الضعيف الصغير لم يستسلم ويسارع في بنائه من جديد وهو يزقزق فرحا مسرور، رافضا، فكرة الوطن البديل، رغم ما فيه من غراءات وميزات، وتمسك بوطنه الصغير الذي ولد فيه أو بناه قشة قشة، والسائل يسأل كيف ذلك؟ والجواب: ألم يخرج العصفور صغير الحجم كبير الهمة، من وطنه، كل صباح باحثا عن رزقه ليطعم فراخه من مزارع وحدائق الأمراء، والأغنياء وساسة القوم؟ وبالطبع في هذه الحدائق والجنان ما لذ وطاب من المأكل والمشرب، ناهيك وقد وفر له الحماية؛ إذ يمنع اصطياده وبإمكانه أن يختار ما شاء من تلك المزارع والحدائق الغناء لتُصبح له الوطن الواسع الجميل، بديلا عن وطنه الأم وسيعيش في راحة تامة، ويكفيه عناء البحث عن الرزق وشظف العيش.

لكن نتيجة حبه ووفاؤه وانتماؤه لوطنه لم يساوم عليه، ولم يقبل العرض المغري، وقِس على ذلك وفاء القطط الغريب لأوطانها، قد تحمل وتجبر بالقوة على مغادرة وطنها، ولكن تراها تتحدى الأخطار وتقطع الفيافي والقفار، تسابق الريح لتعود إليه، وبالفعل قد تسبق من أراد نفيها من وطنها في العودة إليه، وهذا ما يحدث كل يوم وهو درس مهم في حب الوطن، وكأنها تقول طردت من وطني أو لم أطرد، فذلك لا يغير من حبي وولائي له، وربما هناك من سيعيب علي استدلالي هذا، ولكن فلنرجع إلى قول الله ووحيه وتنزيله.

ومن هذا الاستدلال، علينا أنْ نتخطى غير بني الإنسان، في عشق الأوطان، ونطرز بذكر اسمها ما تنطق به اللسان، ونبرز ما تخفيه القلوب والأنفس على مر الأزمان، ولا نبخل عليها بالدمع والدم ونسكب لها المداد من الأقلام؛ لأنْ ليس للإحسان جزاء إلا الإحسان، وقد أحسنت لنا أوطاننا وعشنا في ربوعها ولنا فيها ذكريات لا تذهب بذهاب السنين والأيام.

خُلاصة القول.. تقع مسؤولية الأوطان على القائمين عليها والمواطنين على حد سواء، والإيمان بالحقوق والواجبات نحو الآخرين يعد من العدل والإنصاف، ويعد ركيزة متينة والمحور الأساسي في حمايتها والحفاظ على استقرارها، والحذر الحذر من أن نتسبَّب في اضطراب حبل أمنها، بتصرفات غير مدروسة، وعلى المواطنين دون استثناء أنْ يُدركوا قيمة وطنهم، وأهميته مع المطالبة بالحقوق المشروعة، ولكن بأسلوب "ادفع بالتي هي أحسن" وتحت قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"؛ لأنَّ كثيرًا من الأخطار تندس لتتربص بوطننا ومهد حضارتنا مُتمثلة في بعض الضواري والحيات ودواب الأرض. ومن هنا، تكون المسؤولية مشتركة في إبعاد أي خطر يحدق بالوطن الغالي، آملا أن لا تُوضع هذه الكلمات المتواضعة في غير محلها، ولا القصد منها التطبيل لأحد ولا التحريض على أحد، بل القصد المطلق التنبيه والتذكير بقدسيته وأهميته، وإنَّ سلامة طننا الجميل مسؤولية الجميع؛ إذ لا تقتصر على فرد دون فرد، ولا مؤسسة دون أخرى.

تعليق عبر الفيس بوك