د. صالح الفهدي
أود أن أنبه في هذا المقال إلى أننا مقبلون على مجموعة من التحولات التي تمس هُويتنا الوطنية، وخصوصيتنا الوطنية، وثقافتنا التاريخية، ومكوناتنا الاجتماعية، خلال السنوات المقبلة، وفق قراءات شخصية، واستنتاجات ذاتية.
وإذا كان المجتمع كالنهر؛ يتعرض في سيرورته التاريخية إلى مختلف المتغيرات بين جدب وخصب، وضعف وفيضان، وصفاء وطمي، فإن مجتمعنا مقبلٌ على متغيرات قادمة سعيتُ -ومثلي كثيرون- إلى الاجتهاد من أجل سد الفجوات الناشئة عنها بما تسمح به الإمكانات والقدرات الشخصية.
المتحول الأول هو: اللغة؛ والتي لا تعني مجرد التواصل مع الآخر بالكلمات، وإنما تعني أساس الهوية القومية الجامعة لأمة من الأمم، فالأمم التي تخلت عن لغتها، فقدت لبَّ هويتها، يقول الكاتب سمير الزين: "اللغة كائن حي، إذا أخرجتها من شروطها وأفقدتها وظيفتها الدلالية، تحولت إلى جثة هامدة، توجد في المجتمعات الإنسانية من دون فعالية؛ لأنها ببساطة تفقد روحها؛ حيث يتم لي عنق الكلمات، لتعبر عن وقائع بغير كلماتها المناسبة. حيث الكلمات تصور الوقائع، لكنها لا تؤدي المعنى والدلالة الحقيقية، ولا تكون معادلاً موضوعياً للواقع، فهي تجبر على أداء مهمة ليست مهمتها".
إنَّنا نتجه إلى الاضمحلال اللغوي الذي نلمسه في كثير من الجوانب ومنها مسميات الأشياء، وضعف القدرة على التعبير عن مختلف المواضيع، وانكماش القاموس اللغوي، واستبدالها بالكلمات الدخيلة..! نحن إذن واقعون في أزمة لغوية، حيث إننا لا نتحدث اللغة العربية الفصيحة، وفي المقابل فإن لهجتنا الدارجة المشتقة من العربية تعاني من نحت مستمر، ونزيف دائم للكثير من مفرداتها، ومصطلحاتها، بسبب التحولات المختلفة وتعاقب الأجيال؛ لهذا دخلت الكلمات الأجنبية شيئاً فشيئاً في لهجتنا، كما دخلت "العربيزية" في كتابات الجيل المعاصر، وأصبح الأبناء يفضلون التعبير باللغة الإنجليزية لأنهم يجيدون الفضفضة بها، وتصوير مقاصدهم بها؛ مما يعني أن هناك تشكلاً لغويا غريبا، وإنتاجا للغة هجينة لا تمت إلينا بشيء في القادم من السنوات، وسيأتي زمانٌ قد يفقد فيه جيلان منا لغة التواصل بينهما، واتساع الفجوة في مفاهيمهما..!
المتحول الثاني: "الهوية الوطنية"؛ فإن أجيالنا الحالية تعاني من أزمة انفصام وضعف تجذر ثقافي بتاريخها، وثقافتها. لقد انتشر لي مقطعٌ مرئي مجتزأ من إحدى مقابلاتي في إذاعة خاصة أقول فيه: إنني سألت مجموعةً من الطلاب عن معنى اسم عمان، فلم يعرفوا الإجابة؟!! ثم يعقب السؤال تعريفٌ لاسم عمان أعدته الإذاعة الخاصة، وتناقُل الناس لهذا المقطع يدل على أنهم يحملون هاجس الشعور ذاته الذي حرك في نفسي هذا السؤال وهو: كيف لجيل أن يعي قيمة الوطن، وهويته، وتاريخه، دون أن يلج بابه، وبابه هو اسمه؛ فمعنى الاسم يقود إلى فهم المسمى وكينونته.
ولكي يكون المواطن مواطناً أصيلاً وحقيقيًّا لابد أن يدرك أسس الهُوية الوطنية، بمعنى أنه لابد أن يدرك من هو؛ لأن الهوية تعني الجوهر، ولكي يدرك من هو، وما هو جوهره فلابد أن يعي المكونات التي أنتجت شخصيته والتي تتداخل فيها العوامل التاريخية والاجتماعية والأدبية والثقافية والحضارية وتعجنها عجناً حتى تصل إلى مكونها الأخير، لكن إن كان الجيل لا يعرف معنى اسم وطنه، فكيف نتوقع منه أن يعرف مكوناته الأخرى، وأخشى ما أخشاه أن نصبح كبعض الدول تصارع من أجل تجذير أو إحياء علاقات أبنائها بهويتها وتاريخية، وهو صراعٌ صعب في ظل رياح المؤثرات الكبيرة التي تتقصد تذويب الهويات، وتشكيل الإنسان المعولم وافتتان الأبناء بثقافات أخرى..!
أما المتحول الثالث، فهو: الدين؛ إذ إننا باعتبارنا أمة مسلمة نفخر باعتناقنا الإسلام طواعية، ونُفاخر بمحافظتنا عليه، فإن الدين ليس مجرد طقوس من صلاة وزكاة وصوم وحج، بل هو منهج حياة، تؤطره عقيدةٌ من الفضائل والمآثر والمحامد وتبرهن عليه سلوكاتٌ سوية، ومعاملات أمينة، وعلاقات صادقة، لكننا نواجه أزمة في واقعنا بسبب الازدواجية بين المسجد والواقع؛ مما أنتج سلوكات وتعاملات لا ترتبط بقيم الدين وأخلاقياته، وإنما تطغَى عليها الأنانيات والنفاق والحسد والتغطرس والانتهازية...وغيرها من الأمراض التي تنهشنا بقوة، وتفصلنا عن روح المجتمع، بل وعن ذواتنا الأصيلة شيئاً فشيئا. ولم أفتأ أذكر أنه في إحدى الجلسات التي شاركت بها إلى جانب أحد المهتمين بالتاريخ والهوية، وقد كان يمثل جهةً معينةً يُناط بها مسؤولية الخطاب الديني في المجتمع، حين سألتُه طالبةٌ: اسمح لي أن أكون جريئةً فأسألك: هل تعترفون بضعف خطابكم الديني الموجه للشباب؟ فرد عليها: وسأكون أكثر جرأةً منك فأقول نعم!
في هذه الجامعة التي تنتمي لها الطالبة صاحبة السؤال، سمعنا عن اجتماعات مشبوهة أبان عنها البعض في وسائل التواصل الاجتماعي لحركات إلحادية حذَّر من خطرها كثيرون، وطالبوا بضرورة التدخل لوقف هذه الحركات التي تتقصد سلخ الشباب من عقيدة الإسلام، ولعل حادثة انتحار فتاة تركت رسالة يتَّضح منها تأثرها بهذه الأفكار الإلحادية -نسأل الله لها الرحمة والمغفرة- وهي حادثة هزت مجتمعنا المحافظ بأسره.
هذا المتحول خطير جدًّا ليس على صعيد الفرد وحسب، بل على صعيد المجتمع بأكمله: ثقافةً، وتفكيراً، وسلوكاً، ونمطاً، حياتيا.
المتحول الرابع هو: الأسرة؛ والتي ستشهد خلال السنوات المقبلة تأخراً في سن الزواج يصل في اعتقادي إلى ما يقارب الخامسة والثلاثين للشاب والثلاثين للشابة، كما تزيد معدلات العنوسة في المجتمع، ويقل عدد الأبناء في الأسرة الناشئة من اثنين إلى ثلاثة في الغالب، وتزداد حالات الطلاق؛ وذلك كله نتيجةً للضغوطات الاقتصادية المتنامية على الأسرة وأربابها.
المتحول الخامس هو: الاقتصاد؛ والذي سيشهد تأثراً بالغاً على المؤسسات الصغيرة؛ مما سيؤدي إلى اختفاء عدد كبير منها، والتحول إلى المتاجر الإلكترونية للتخفيف من الأعباء المالية والإجراءات المعقدة والمكلفة، كما ستتغير الأنماط السلوكية للأسرة؛ حيث ستركز على الحاجات بشكل أكبر من الكماليات التي عرفها المجتمع في بعض فترات الرفاه أو كثقافة اجتماعية، وعلى إثرها ستتغير الكثير من أنماط التفكير المتعلقة بالمظاهر والمباهاة فتصغر أحجام البيوت، وسيتم اقتناء السيارات الاقتصادية الصغيرة، خاصة تلك العاملة بالكهرباء أو الطاقة الشمسية مستقبلاً، وستضعُف القدرة الشرائية للأسرة.
وخلال السنوات القليلة المقبلة، ستتأثر الطبقة المتوسطة كثيراً، وبناءً عليه سيتأثر المجتمع اقتصاديًّا، وقد ورد في صحيفة "نون بوست" الإلكترونية تقريرٌ مفاده أنَّ:"الطبقة الوسطى هي مصدر الازدهار الاقتصادي؛ فهي توفر قاعدة مستقرة من المستهلكين الذين يدفعون عجلة الإنتاج، التي بالتالي تحقق ريادة الأعمال وتشجع الابتكارات والاستثمارات طويلة الأجل". ويواصل التقرير: "فقد أشار إلى ذلك عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز، في كتابه "النظرية العامة للعمالة والفائدة والمال" عام 1936، عندما قال إنَّ استهلاك الطبقة المتوسطة مطلوب لتحفيز الاستثمار، وخلصت إلى ذلك دراسة أخرى من الأستاذ في جامعة أوهايو مارك بارتريدج الذي قال: "طبقة وسطى أكثر حيوية يعني نموًّا اقتصاديًّا طويل الأجل". هذا الكلام يوضح لنا أن تآكل الطبقة المتوسطة في المجتمع ستكون له آثاره الوخيمة على تنمية المجتمع وازدهاره..!
المتحول السادس: أخلاقي؛ وهو هشاشة البناء القيمي الأخلاقي في المجتمع؛ فينتج عنه تزايد السلوكات غير السوية في المجتمع، وهي سلوكات عادةً ما تنجم في فترات الكساد الاقتصادي، وفتور الحراك التنموي فيه.
المتحول السابع هو: الديموغرافية؛ حيث سنشهد خلال السنوات المقبلة عودة بعض الذين استوطنوا المدينة لسنوات طويلة، لقُراهم من أجل الاستقرار بسبب تقاعد الكثيرين والضغوطات المالية الكبيرة عليهم، تزامنا مع ضعف الرغبة في الانتقال من القرية إلى المدينة بسبب الأعباء المالية.
هذه أهم المتحولات الاجتماعية المقبلة من خلال استنتاجاتي الشخصية، وقد تصيب أو تخطئ، لكنها وجهة نظر شخصية، أرجو أن تؤخذ مأخذ الجدية، خاصة من قبل صناع القرار، كل في مجال مسؤولياته، وواجباته الوطنية، كما أرجو أنْ لا تعزى إلى بواعث تشاؤمية، إذ لا علاقة لهذه القراءة بالتشاؤم أو التفاؤل وإنما الأخذ بالأسباب، وربط الأسباب بعواقبها. ورغم أنها غير مبنية على دراسات موثقة إلا أنها تمحيصات تقارب الواقع في مساقاته إذا مضت أسبابها في منهج متصاعد، ومسار واحد، دون أن يغيرها مغير إلى مجرى آخر يؤثر في مخرجاتها. وهنا فإنني أقول إننا بحاجة لمُعالجات اقتصادية، وتعليمية، ودينية، وقيمية، وتاريخية لدرء أخطار هذه المتحولات على المجتمع، وهي دعوةٌ لم نفتأ نرفع بها عقائرنا منذ أمد بعيد.