التعليم عن بعد أم بعد عن التعليم؟!

 

مصطفى عبد المولى السيد

رئيس قسم اللغة العربية بمدرسة أحمد بن ماجد الخاصة

 

إنَّ من يتأمل عنوان المقال ويحدد دلالته سيدرك بما لايدع مجالا للشك أنها ليست مقارنة بين حال المتعلمين الآن وحالهم من ذي قبل وسيدرك تماما في نهاية المقال أنها ليست دعوة للتخلي عن التعلم عن بعد بكل وسائله التكنولوجية على العكس تماما، أليست التكنولوجيا والتعليم عن بعد هو المنقذ لنا نحن - المعلمين والطلاب - في هذه الفترة ؟

فلعل الثنائية التي حملت بين طياتها عنوان المقال تجمع ولا تفرق توحد ولا تشتت، دعونا نؤصل فكرة التعليم والتعلم عن بعد وكيف تنفذ قي مجتمعاتنا العربية ؟

إن التعلم عن بعد فكرة ليست وليدة هذه الظروف التي يمر بها العالم لا سيما في المجتمعات التي تخطط وتدرك مدى أهمية الاستعداد لأي فرضيات أو تغييرات قد تحدث ما بين عشية وضحاها

ولعل تلك التجربة هي فكرة جديدة لدينا خاصة في أروقة المدارس ولم ننتبه إليها إلا بعد أن اجتاحتنا تلك النازلة أو الجائحة المسماة ( كورونا ) في حين أن هذه التجربة يعمل بها في المجتمعات المتقدمة علميا وصناعيا وإنسانيا منذ أكثر من ثلاثين عاما لأنها أدركت أن كل يوم هو في شأن خاصة في هذا العالم السريع الخطير والذي يمكن أن يتم التحكم فيه من أقصاه إلى أدناه بكبسة زر.

لعلنا الآن أدركنا مدى المأزق الذي تعرضنا له جميعا وأول ضحاياه هو الطالب فهل ياترى عندما نسترد طلابنا مرة أخرى إن جاز التعبير وتوافدوا لمدارسهم وفصولهم سنترك عدادنا وعتادنا ورحلتنا وراحلتنا العنكبوتية ونعود كما كنا من ذي قبل ؟ !

ماذا لو اجتاحتنا كورونا أخرى أو كوفيد 20 - لا سمح الله - أليس من الفطنة والكياسة ألا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ؟ أليس من الأجدر كما قال المتنبي قديما: أن نبذل لها المطارف والحشايا، بالتخطيط السليم وتطوير الذات وتنمية المهارات وتوفير الإمكانات أم نجعلها تبيت في عظامنا مرة أخرى ؟!

 

ولا أبالغ أيها القارئ العزيز إن قلت وأنا ممن كتب عليهم الجهاد في الميدان التعليمي أن هناك ثله من المعلمين تحول التعليم و التعلم عن بعد على يديهم إلى بعد عن التعليم لأنهم اتخذوا من التقانة والتكنولوجيا غاية لا وسيلة نسوا أو تناسوا أن المهارة قبل المعلومة وأصبح ذروة الأمر وسنامه لديهم العرض التقديمي أوالمقطع المرئي (الفيديو) المقدم أو رفع المحتوى التعليمي على وحدات المنصات والتي راجت تجارتها الآن دون النظر إلى مناسبتها لإدراك الطالب نفسيا وعقليا أم لا واعتبروا هذا هو معيار عملية التعليم ومؤشر للنجاح بل هو النجاح ذاته فواعجبا! ألا إنهم سقطوا في فخ التكنولوجيا إن جاز التعبير وللأسف لقد سقط الكثيرون فيه ونسوا أن كل هذا الزخم مجرد وسائل لتقريب الدرس للطالب واستدعائه متى أراد

ولا يفهم من هذا أننا ضد التقانة واستخدامها في عملية التعليم والتعلم ولكننا ضد أن تكون غاية بغض النظر هل قدمت المادة العلمية بما يخدم المهارة المطلوبة أم قدمت تلك المادة وكأنها معلبات محفوظة لا تغني ولا تسمن من جوع ومحتويات قصت ولصقت من المقاطع المرئية أو رصت في المنصات التعليمية المتعددة وأن نتخلى عن محورالعملية التعليمية وقطبها الأساس وهو الطالب.

من وجهة نظري المتواضعة الذي يصنع الفارق بين معلم مميز ومعلم نمطي هي تلك الشعرة الدقيقة التي تفصل بين المعلومة التي يمكن أن يقدمها أي معلم وباتت محنطة كالمومياء التي لا روح فيها وبين المهارة الخلاقة التي يتعلمها ويتدرب عليها الطالب والتي ستظل ملازمة له طوال حياته وهذه المهارة لا يمكن أن يقدمها إلا المعلم المبدع المميز المؤمن بأن المهارة قبل المعلومة وأن المعلومة ما هي إلا وسيلة وسلما لإدراك تلك المهارة ولعل ما يؤكد تلك النظرية سؤالي هذا : ماذا لو أنك أيها القارىء العزيز تعلم آلاف المعلومات عن رياضة السباحة ولكنك لا تجيد ممارسة السباحة؟ وماذا لو أنك تعلم آلاف المعلومات عن الحاسب الآلي ولكنك لا تجيد استخدامه؟

وماذا لو أنك تعلم آلاف المعلومات عن قيادة السيارات ولا تجيد فن القيادة؟ ما فائدة تلك المعلومات إذن؟

الجواب متروك لك أيها العزيز.

 

وأما ما يتعلق بالحقل التربوي وخاصة في مادة اللغة العربية والتي تحولت على أيدي تلك الثلة التي ذكرتها في بداية المقال إلى لغة جافة جامدة ومعلومات معلبة وقد وصل هذا الإحساس بالطبع للطالب والذي أصبح يأنفها ولا يألفها ونسوا أو تناسوا أن العربية لغة حية بها من دماء الحياة ما يجعلها باقية خالدة خلود السماء والأرض ولكن تحتاج لمعلم مهاري يبدع ويدرب ويحاكي ويفنن في تقديم مهاراتها وأساليبها ومفرداتها التي أقف أمامها مسحورا سواء في رصانتها وقوتها وسبكها وأساليبها ولطائفها وجذورها ودلالات ألفاظها وتوليد معانيها وروعة أخيلتها ...إلخ ليس هذا تحيزا بل حقائق وبديهات مطلقة اكتشفها حتى الأعاجم.

كل هذا بالطبع سينعكس على الطالب لأن الطالب بلاشك هو عنوان معلمه وصورة صادقة تبين ما زرعه المعلم فيه ولعل ما يؤكد هذه الفكرة في مادة اللغة العربية هي مهارة التعبير بشقيه (الكتابي والشفوي) فلا يهمنا ماذا كتب الطالب بقدر ما يهمنا كيف كتب الطالب لايهمنا عن أي شيء تحدث الطالب بقدر ما يهمنا كيف تحدث الطالب وكيف استخدم الثمانية والعشرين حرفا هذا العدد البسيط لينسج ثوبا جميلا رائقا ماتعا يانعا يريح القلب والعين ومناسبا للموقف اللغوي و السياقي مستخدما آليات الكتابة ذاتها في التعبير عن فكرته سواء كتابيا أو شفهيا.

ولعل تجربة فلندا في هذا السياق تؤكد ما أصلناه سابقا فهذه الدولة لا نكاد نسمع اسمها في ساحات السياسة وتحليلات الخبراء ولا ضمن أرقام الاقتصاديين ولا أسهم البورصات ولكن يشار إليها بالبنان في مجال التعليم وكأنها من كوكب آخر وإن لم تكن هي الأولى عالميا في جودة التعليم ومخرجاته فهي لاشك من الدول المتقدمة في هذا المضمار وأن نسبة هروب طلابها من المدارس تكاد تصل إلى صفر في المئة

والأسباب كثيرة ومنوعة وليس هذا مقام سردها ولكن أشير إلى شيء يخدم فكرة مقالي هذا فحسب وهو تعلم المهارات واتخاذ المعلومة والتكنولوجيا سلما لإدراكها وتطوير تلك المهارات ذاتيا وأن ليس كل إنسان حاملا لشهادة البكارليوس أو الليسانس أو غيرهما من المسميات العلمية يصلح أن يكون معلما أو مربيا وليست ورقة الامتحان النهائية هي ورقة المصير -أكون أو لا أكون - وذاتها هي الورقة التي تقيس جميع المهارات التي تعلمها طوال عشرة أشهر وتنفذ في ساعتين أو ثلاثة أليست هذه من عجائب القرن الواحد والعشرين؟!

أختم مقالي بهذه المناشدة: ليكن التعلم عن بعد موجودا ومفعلا من الآن فصاعدا ولا نتخلى عن تقنياته ولكن ليكن وسيلة لا غاية فالغاية أسمى من منصة أو عرض تقديمي أو مقطع مرئي أو صوتي أو معلومة محفوظة معلبة تقدم بطريقة واحدة وإن لم يفهم الطالب فننعته بالغباء فهذا اتهام باطل من أوله لآخره فما زلت أعول على إمكانات المعلم المخطط المبدع المطلع المتفهم لاتجاهات الطلاب النفسية ومتفهما للمنظومة التعليمية بصفة عامة لا ناسيا ولا متناسيا أبدا أن التعلم عن بعد له أصوله ويمكن أن يكون له مخرجاته إن فهمنا غايات التعليم الحقيقية وإلا فاقد الشيء بالطبع لا يعطيه هكذا لن يكون بعدا عن التعليم أبدا خاصة في ظل هذه الأزمات التي كادت لا تبقي ولا تذر إلا من استمسك بدينه وهويته وقيمه ونفض غبار الماضي عن تراثه واستنشق أريجه وانفتح على الآخرين واستفاد من تجاربهم وخطط وعلم وتعلم ذاتيا وقرأ واطلع وتطورت مهاراته وأخذ بأسباب النجاح والعلم ليصبح ذا مكانة في هذا الكوكب الغريب.

تعليق عبر الفيس بوك