لُغَتي العربية

هود بن محمود الدغيشي

أتظنُ الله جمعنا هُنا لنصبغ هذا العالم الغربي بمبادئ الشرق.. أو ربما نُعيد في حقائبنا بعضاً من عِلمهم لنمزجه بمبادئنا الشرقية؟

أشعر أحياناً أن هُناك حلقة مَفقودة هُنا رُغم كل هذا التطور والجمال ..هُناك شئ قاصر ..شئٌ لا أثرَ له إلى بُلداننا ..رُغم كُل الجهل والفقر الذي يكتسحها ..هُناك لمسَة وجدانية أرتبطت بنا وارتبطنا بها ..كالجبلِ السري بين الأم وطِفلها.. هذا هو الشيء الذي ما زال ممسكاً بخاصرة قلوبنا كي لا تفلت، ولعله لم يبق لنا من فتات الوطن شيئًا سوى هذا الرابط.

نحن بحاجه أكثر لأن نستعيد بقية ذواتنا التي فقدت وجهتها مؤخراً وتلاشت بين أزقة العالم في الوقتِ الراهن، فما الذي تظنهُ تبقّى في عروبتنا؟ لا شيء سوى مصطلحات جغرافية على الأغلب، حتى اللغة العربية فقدت هويتها كثيراً .

حين تذهب للجامعة سترى شيئا مُخيفا، ستشاهد رِفاقك يكتبون اللغة العربية نُطقًا بحروف إنجليزية، ستُشاهد الكثير من العروبة مرمية عند بوابة المطارات، خلعها أصحابها حال دخولهم هُن.. أين التطور في قَسرْ الأحرف وتعريبها؟ إنهم لا يشعرون باللغة حين تئن، لا هم تركوها ولا هم أكرموها..

فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني..

ومنكم وإن عز الدواء أساتي ..

لم أرَ ألمانياً أو فرنسياً يُحاول التحدث بالإنجليزية ليُثبت تحضّره، لم أرَ وحقِ الجزمِ آلمني إظهار الألفُ المُختبئ سِراً، أظهرتهُ سهواً وهو في عُزلته قد جُزم الحقُ في عينيه.

قال على بن أبي طالب: "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم"، ولكن أن تُمزّق كُتب العربية لترضى شهوة التطور والعولمة التي تتنامى في عقلك، تلك جريمة أخلاقية وجريمة بحق فاعلها أولاً ثم بحق الآخرين.

يُحكى أن بعض الشباب الغربيين في عهد الدولة الأندلسية كانوا يباهون حبيباتهم بإتقانهم اللغة العربية؛ بل وكانوا يُرسلون صفوة شعوبهم ونوابغهم إلينا ليستلّوا بعضاً من أحرفنا فيُثقلهم الضاد فيُحضرون له حقيبة خاصة به ليعيدوه فيها مُكرماً وكأنهُ تِمثالٌ مُقدّس.

أتعرف ماذا تعني العولمة؟

سأخبرك أولاً عن عِلم لطيف للغاية: علم الفيلولوجيا؛ هذا اسم علم دراسة اللغات، يتخصص فيه مئات الخبراء والدارسين، وتعريف اللغة بحسب هذا العلم هو: أصوات يعبر كل جيل من الناس عما في وجدانهم، أو هي الكلام المصطلح عليه بين كل قوم، ويدعي البعض أن كلمة (لغة) في العربية مأخوذة من لفظة (لوغوس) اليونانية ومعناها (كلمة) تخيّل كانت اللغة بمثابة كلمة!

ويُقدّر علماء الفيلولوجيا عدد اللغات المنطوقة الآن عند البشر بثلاثة آلاف لغة، كثير منها لغات محدودة ينطق بها عدد قليل من الناس، ولكن اللغات الرئيسية التي يتكلم بها أكثر من مليون شخص للغة الواحدة تزيد قليلاً على المائة لغة.

من تلك اللغات تسع عشرة لغة كبرى يزيد عدد المتكلمين بكل منها عن خمسين مليون شخص.

حكاية اللغات مشوقة جداً ..يُقال أيضاً أن اليهود قد زعموا أن لغتهم العبرانية هي أم اللغات والتي نشأت منها، وإستمرت تلك الإشاعة لقرون ..حتى وَجد علُما الــ(الفيلولوجيا)، لغات مكتوبة أقدم منها، كالصينية مثلاً، والهيروغليفية في مصر والسومرية ويقول بعض عُلماء اللغة أن اللغة البابلية هي الأم للبشرية والتي إنشقت منها السومرية !تخيل أن علم اللغات يِسمى "الفيلولوجيا".

فيلو = مشاعر وأحاسيس !

لوفيا = حُب !

لوجيا = علم !

الفيلولوجيا = علم دراسة المشاعر !

هل تُدرك كمية العظمة في الأمر ..العظمة الأكبر تكمن في العقول التي إنبثق عنها هذا الكم الهائل من التعبيرات ..لطالما راودتني الكثير من الأسئلة عن اللغات ..كيف لأولئك الذين نطقت شفاههم أول كلمة على وجه الأرض أن يشكلوها في أدمغتهم؟

لماذا اختيرت "موسيقى" مثلاً لتعبر عن الأصوات وما الذي جعلهم يطلقون على فعل إنهمار الدموع بكاءً لا ضحك؟ وكيف سمّوا الحب بهذا الاسم؟ ولماذا سمّوا الكراهية هكذا؟

تمنيت لو أنني موجود بينهم وهم يختارون للأشياء أسمائها للمرة الأولى!

كُنت جعلت اسم فتاة مكان القمر مثلاً، واسم أمي مكان السماء، واسم أبي بَدلَ البحر، واسم نوف بدل السَحاب الماطِر، تخيل أن نقول: نوف بدأ هطوله!

هناك نظرية علمية شهيرة هي الأقرب للحقيقة وهناك أساطير مشهورة متعددة غير مُثبتة..

دمُ الأمهاتِ الذي نزفَنَا وزفّنا إلى الدنيا دمٌ طاهِر جئنا منهُ، عدا ذلك دماءٌ إما ظالمة أو مظلومة..

تذكرني بتلك اللعبة التي تشكلها حين تُكوّن حلقة دائرية من الأطفال، ومن ثم يهمس الطفل الأول في أذن الثاني والثاني بنفس الجملة في أذن الثالث حتى تعود نفس الجملة لأذن لأول مُختلفة تماما.

هذه حكاية اللغات بالضبط، همست بغداد في أذن العالم فعادت بعد قرون تلك اللغات مختلفة ومتنوعة مابين إنجليزية وفرنسية لبغداد على أنها هي أساس التطور والمجد وأصبح العراقيين اليوم يتعلمونها أسفاً بإنبهار!

رُغم أن بغداد هي الأولى كم هي عظيمة هذه البغداد... بغدادُ وما أدراك ما بغداد، المدينة الحالمة المترفة بالنوابغ.. أبلغُ من وصفها كان العقّاد بأنه ليس لعالم أو تاجر أو ذي حرفة أن يصل لمبتغاة وتصير له سلطة إلا إذا سكن بغداد وذاب فيها كما يذوب السكر في الماء.

في عهد الدولة العباسية كان ذلك حاصلاً وقد إستعادت بغداد أغلب سماتها الورّاقة عندما كانت الثقافة والعلوم دينها ودين أهلها.. ليست البندقية والبارود على الأرجح.. بالطبع، فقد عاثَ فيها هولاكو وحرق مكتبتها ومن ثُم جائت أمريكا وأكملت فساد المّغول وأحرقتَ شوارعها!

تباً لهُم، لا يطيبُ لهم أيُ جمالٍ حتى يُفسدوه!

هل تعرف شارع المُتنبي في بغداد، أتمنى لو يكون شهرُ عسلي هُناك؟

يقال إن لبناته معجونة برائحة الكتب..

كولش يخبّل وهواية كلبي سارح هناك ..

لهجةٌ عذبةٌ تُسقي شاربها، وتروي ساقيها ..

أخذت من فصائد شعرائها رقة مشاعرهم ..

عن ماذا أحدثكم؟

ما زال بيننا وبين الفجرِ مسيرُ شهر!

 

مقالة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الموافق18  ديسمبر من كل عام

 

تعليق عبر الفيس بوك