أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
في العلوم الطبيعية يُمكننا أن نصنف المعرفة إلى صنفين الأول معرفة بالقوانين الطبيعية التي تسود ظاهرة ما والنوع الآخر من المعرفة للظاهرة يتم من خلال رصد المعلومات عن تلك الظاهرة، فمثلاً نحن نعلم من قوانين الجاذبية لنيوتن أنَّ قوة الجاذبية تتناسب طردياً مع الكتلة، وتتناسب عكسياً مع مربع المسافة فيما بينهما، فلو أردنا أن نعلم قوة الجاذبية بين جرمين سماويين فلابد من معرفة بعض المعلومات الأساسية وهي كتلة الجرمين والمسافة الفاصلة بينهما.
وفي حالات معينة قد نعلم القانون الطبيعي ولكن لا نستطيع أن نلم تماماً بجميع المتغيرات المتعلقة بالقانون كما هو الحال في التنبؤ بالأرصاد الجوية، وهناك حالات معاكسة فقد نلم ببعض المعلومات عن ظاهرة ما ولكن لا نعلم طبيعة القوانين التي تتحكم في الظاهرة كما هو الحال مع المادة المُظلمة على سبيل المثال، فنحن نعلم بأنَّ لها جاذبية ولكننا لا نعلم القوانين التي تتحكم في هذه المادة المُظلمة.
لكن هناك ظواهر في هذا الكون لا يُمكننا معرفة القوانين التي تحكمها ولا يُمكننا جمع أية معلومات مُباشرة عن تلك الظاهرة، ولذا فإنَّ أبواب المعرفة تكون موصدة أمامنا تمامًا.
ومن أبرز هذه الظواهر الكونية ما يعرف بظاهرة الثقب الأسود، وهي ظاهرة مرتبطة بموت النجوم العملاقة.
فكما نعلم بأن النجوم التي تُنير السماء ليلا هي كرات ملتهبة من النار نتيجة لتفاعلات نووية ضخمة تحدث على سطحها وتبقى لملايين السنين على هذه الحالة ولكن عندما تصل هذه التفاعلات إلى نهايتها وتتوقف يبدأ النجم بالانهيار والتقلص في غضون ثوانٍ بفعل طاقة جاذبية النجم الذاتية وإذا كانت كتلة النجم تبلغ 10 أضعاف كتلة الشمس أو أكثر فإنه وبسبب قوى الجاذبية الناتجة عن كتلته الكبيرة فإنه ينكمش على نفسه من ملايين الكيلومترات إلى نقطة متناهية الصغر تعرف بالتفرد.
وتعرف نقطة التفرد بأنها نقطة في الفضاء متناهية الصغر وتصل كثافة المادة فيها إلى أقصى مداها أما قوة جاذبيتها فهي لا متناهية، وعند هذه النقطة فإن جميع معرفتنا العلمية تتلاشى لأنَّ جميع قوانين الطبيعة تنهار ويتحول علمنا إلى جهل تام.
بل إنَّ الأمر لا يقتصر على القوانين الفيزيائية وحسب، فهناك منطقة حول نقطة التفرد تعرف بخط الأفق لا يُمكن لنا أن نحصل على أية معلومات عنها فهي منطقة لا تبوح بأسرارها مطلقاً وذلك لأنَّ أي شيء مادي يتجاوز هذه المنطقة باتجاه نقطة التفرد لن يستطيع أن يتراجع للسير في اتجاه مُعاكس فكل من دخل هذه المنطقة سيتجه باتجاه واحد وهو باتجاه نقطة التفرد، فهي منطقة اللاعودة وحتى الضوء لا يستطيع أن ينفلت من هذه المنطقة فلا ينعكس راجعاً بعد دخوله لهذه المنطقة، ولهذا فلا يُمكن لنا نحن البشر الاطلاع على ما يحدث بعد هذه النقطة بشكل مباشر فهو سر دفين في هذا الكون لن يتم الكشف عنه بسهولة بل ربما يظل في طي الكتمان لفترات طويلة لا يعلمها إلا الله.
ولكي نتصور ما يحدث عند خط الأفق فإن الدوامات المائية الضخمة التي تحدث في المحيطات تعد مثالاً نموذجياً لتصور الثقب الأسود، فهذه الدوامات تشطف الماء من سطح البحر شطفاً لتوصله إلى نهايتها، ولذا فإنَّ جميع الكائنات الحية والمواد العالقة في مياه البحر تبتلعها هذه الدوامات بفعل جاذبية مصدر الدوامة، إن ما يحدث في نقطة التفرد بفعل الجاذبية شبيه بالدوامة ولكن نقطة التفرد الكونية تشطف المكان -بدل الماء- شطفاً من هذا الكون إلى عالم مجهول في نقطة التفرد في الثقب الأسود بفعل الجاذبية ولذا لا شيء يهرب من هذه النقطة، فالمكان وما فيه تبتلعه هذه النقطة إلى عالم مجهول ولكن قوة الجذب في نقطة التفرد أكبر بكثير ولا تقارن بقوة جاذبية الدوامات المائية ولذا فإن الضوء أيضاً لا يستطيع أن ينفلت من قوة جاذبية الثقب الأسود.
ولذا فإنَّ المعلومات التي نستقيها حالياً عن الثقب الأسود مصدرها إما متابعة لما يحدث عند أو قبل خط الأفق، وذلك لأن الغازات القريبة من خط الأفق تتحرك بسرعة أكبر نتيجة الجاذبية ولذا ونتيجة لزيادة سرعتها فإن حرارتها ترتفع وتصبح أشد حرارة وتصدر أشعة سينية قوية، ولذا تعد الأشعة السينية القوية مؤشراً مثالياً لوجود ثقب أسود في الكون.
أما المصدر الآخر للمعلومات فهو المعادلات الرياضية؛ حيث إنَّ الحلول للمعادلات الرياضية المرتبطة بظاهرة الثقب السود تفسح لنا المجال لنخمن ما يجري داخل الثقب الأسود.
ولكي تتخيل ضخامة هذه الثقوب السوداء، فإنَّ مجرتنا التي نعيش على أحد كواكبها وهي مجرة درب التبانة تحوي ثقباً أسود عملاقاً في وسطها تقدر كتلة هذا الثقب بكتلة أربعة ملايين شمس بحجم الشمس التي تشرق على أرضنا، وأما حجم هذا الثقب -قطر خط الأفق-فيقدر بحجم نظامنا الشمسي.
ويعتقد الفلكيون أنَّ الكون مليء بثقوب سوداء بأحجام مختلفة، لكن لا عليك فكلها تبعد عنَّا بمسافات فلكية، ولذا عليك أن تنام قرير العين فلن يبتلعك ثقب أسود في يوم من الأيام.
المصادر الرئيسية:
1- Black Holes, The Weird Science of the Most Mysterious Objects in the Universe – Sara Latta
2- The Story of Collapsing Stars, Black Holes, Naked Singularities, and the Cosmic Play of Quantum Gravity – Pankaj S. Joshi
(عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف إلى نشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة تثير الخيال البشري وتجعله يحلق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها).