العلامة يحيى الكندي

د. إسماعيل الأغبري

البحر الزخار المُتدفق على حدائق الأزهار يحيى بن أحمد الكندي جوهر النظام ونثار الجوهر في ذمة الله.

لم يكن الشيخ المُربي يحيى بن أحمد الكندي مجرد رقم يدخل في التعداد السكاني للسلطنة ولم يكن مجرد جسد يتحرك، كما أنه ليس مجرد عالم في الشريعة والأصول واللغة لا أثر له على دنيا الناس.

وكذلك فهو ليس مجرد عالم معدود في العلماء دون نشر للعلم ولا تبليغ له ولا بث له بين النَّاس فذلك النمط من الناس لا ينتفع منه أحد وإنما يكتفي بنيل لقب عالم أو دكتور بالتعبير الحالي.

شيخنا الكندي رحمه الله ليس رقماً في التعداد السكاني وإنما هو فاعل ومُؤثر في المجتمع العماني وهذا واضح من خلال أعداد طلابه الذين التحقوا بحلقاته على مدار عقود وعقود من الزمن فهو ليس جامعاً ولا ساعياً لسلسلة ألقاب علمية يزين بها مجلسه أو يرضي بها نفسه وإنما الغاية الله والقصد بث الوعي في نفوس الناشئة من شبيبة عُمان.

عالم عامل بعلمه بمثابة البحر الزخار بمكنون العلوم والجامع لمعارف شتى والمتدفق على حدائق الأزهار  بما يغرسه في جليسه بطريق مباشر أو غير مباشر من القيم والأخلاق والآداب والسلوك.

في يوم الأحد  ٦/ ١٢/ ٢٠٢٠م وبينما كنت عائدا لشقتي بُعيد أذان المغرب بعد جولة وبرفقة ولدي الأكبر ومعنا آخر بمثابة ولدي أيضًا، انطلقت نحو المطبخ لإعداد قهوة للضيف، وتلك عادتي لأني أحب صنع القهوة بيدي وإذ بي أقلب هاتفي فإذا بسيل منهمر من الرسائل تسوق خبرًا مفاده أنَّ جبلا أشماً توارى جسدا عن مدينة نزوى بل عن عُمان وأن ركنا قد فقدناه شامخاً وأن ذخيرة من ذخائر العلم فقدت وأن درة من درر المعارف منذ اليوم شمسها غابت وأنَّ جواهر العقد الثمين المنتظم صار فيه فراغا شأنه بعد فقدان حبة أصيلة من حباته إنه خبر وفاة طود العلوم الأشم وعميد الأخلاق والسلوك والقيم الشيخ يحيى بن أحمد بن سليمان الكندي -طيب الله ثراه- ورحمة الله تغشاه.

في البداية شككت في الأخبار رغم كثرتها والأصل ألا تجتمع الأمة على خبر غير حقيقي، ولكن لأني كثيرًا ما حدثت نفسي بزيارة شيخي في السنة القادمة متأملا ارتفاع وباء كورونا ذلك الحجاب الحاجز والجدار المانع عن الزيارات.

لم أكتف باستعراض عشرات الرسائل حتى أجريت اتصالاً بأحد طلاب الطود الأشم فأكد لي الخبر تأكيداً جازماً فقلت بعدها مقتنعاً إنا لله وإنا إليه راجعون.

خرجت من المطبخ صانعاً القهوة بيدي وتلك رغبتي وهواية عندي ويبدو أنَّ الجالسين في الصالة استمعوا للحديث فبادرني الضيف قائلاً: كأنك عرفت الخبر؟ فقلت له: وهل كنت تعرف من قبل؟ قال: نعم منذ أن كنَّا نتجول في السيارة ولم أشأ أن أخبرك؟ ولست أدري هل كان يعلم منزلة الشيخ المغفور له بإذن الله في قلبي ومدى رسوخ مكانته عندي؟

عرفته عن قرب في ثمانينيات القرن العشرين الميلادي المنصرم إذ تشرفت بحضور حلقاته الزاهية العلمية واصطحبت كتاب الإيضاح للعلامة الشماخي إذ كان مقرراً في تلك الحلقة في مسجد الردة فكان الجميع عليه أن يواظب على الكتاب وبعد القراءة منه يأتي أوان الرغبات فمن شاء أن يستمع ومن شاء جاز له الانصراف فالوجبة العلمية الدسمة الإجبارية كتاب الإيضاح فهذا يقرأ شرح صحيح الربيع بن حبيب برهة من الزمن وآخر يقرأ جوهر النظام لنور الدين السالمي وثالث يقرأ مدارج الكمال لنور الدين السالمي ورابع ملحة الإعراب وخامس ألفية ابن مالك وهكذا.

الشيخ المربي العامل بعلمه يتفحص طلابه والراغبين في الالتحاق بمدرسته ويزن معارف كل أحد لذا قد يتخير أو ينصح هذا بملحة الإعراب قبل دراسة الألفية أو البدء بمدارج الكمال قبل جوهر النظام فهو يريد من الطالب أن يرتقي سماء العلم درجة درجة حسب قدراته ومُؤهلاته الذهنية.

شيخنا يتمتع بوهج الذكاء فهو يتفقد طلابه من حضر ومن لم يحضر ويحفظ من يتأخر اعتيادًا ومن يتأخر نادراً لكنه لا يفوت عتابه وهو عين ما يصنعه اليوم الأستاذ المحاضر في المعهد والكلية والجامعة ليضبط العملية التعليمية ويمنع التسيب في الفصل فتعمد التأخر عن الحصص يربك الفصل ويقطع حبال المادة التعليمية ويفوت فرائد العلوم عن الجادين من الطلاب.

العلامة الكندي أكثر ما يشغل باله التربية قبل التعليم ومع أنَّه لم يدرس علم التربية والاجتماع إلا أنَّه كأنه قد حازهما وخاض غمارهما فهو لا يهمه كم كتاباً قرأ الطالب وكم بيتاً من الشعر قد حفظ ولكن يشتد أمره إن رأى علماً بدون عمل وسلوكاً يخالف حصيلة العلوم.

إنِّه يكره أن يرى متشدقين بالعلم متظاهرين بالتدين بينما السلوك ومُعاملة الناس لا صلة لها بما تعلموه.

لعل من أسباب انتشار الإلحاد هو مُمارسات بعض أهل التدين من حيث اختلاف القول عن العمل وتعظيم البعض صغائر الآخرين وهم يستبيحون لأنفسهم عظائم الأمور وتركيز البعض على قشور الأمور فيقيمون الدنيا ولا يقعدونها مع استحلالهم لأنفسهم فجائعها والشيخ لا يُطيق هذا التناقض ونفسه تأباه.

إن الشيخ تربوي يسأل طلابه عما كان بالأمس ليختبر وعيهم في تحصيل العلوم كما لا يغفل دعابة لطيفة خفيفة تخفف من جدية الكتاب وهيبة الشيخ الأجل فيدخل السكينة والسرور ويهيئ الطالب لاستقبال المرسل إليه من المعارف والعلوم.

قد يسأل أحد الشيخ سؤالاً فيه نوع من التعنت أو فيه محاولة من الطالب لجر الأستاذ إلى مسألة فقهية فرعية الخلاف فيها بين علماء الدين قائم على أشده بين المدرسة الواحدة لكن الشيخ يُحاول تجاهل السؤال أو كأنه لم يسمعه فيطلب مواصلة الدرس فإذا ما كرر السائل سؤاله الملغم ردَّ عليه بقوله نحن لا نعرف جواب هذا.

لا يقبل الشيخ وشاية ولا يستسيغ رفيعة فالتثبت ملازمه والتيقن سبيل الحكم وما عداه أباطيل وخمان على طلاب علوم الشريعة تجنبه. إن التزام طالب العلم بالتقريب بين أطواد العلم هو سبيل المراشد لا سبيل التشتيت بينهم فاختلافهم رحمة فلا داعي لإيغار قلوب بعضهم على بعض في مسائل فقهية فرعية.

هذا العالم الأفخم العامل بما علم بمثابة الدر المنثور والجوهر المكنون كثير الصمت قليل الكلام في مواطن حديث الناس عن الترقيات والترفيعات والمناصب أما في حلقات العلم فهو ينثر هيميان الزاد وتيسير التفسير لقطب الأئمة محمد بن يوسف أطفيش بل يقول عنه: إنِّه ليس قطب الأئمة فحسب بل هو قطب الأمة.

شرح النيل للقطب أساس من أسس حلقاته ومطالعاته ومصدر أجوبته لسائليه ومع ذلك فهو يحترم العلماء ولكن لا يقدسهم لذا يقول شيخنا عليه الرحمات قد تنزلت برأيه فيكرر عبارة (ولكنا لا نوافقه على ذلك) أو (ولكنا لا نقول بقوله) وهذا يعني أن الشيخ مجتهد فهو مالك لنواصي اللغة والفقه وعلوم القرآن لكن التواضع غالب عليه ومُهيمن.

إن الدرس المستفاد من ذلك هو على طالب العلم التواضع وعدم الغرور والكف عن تسفيه الآراء وعدم ازدراء من سبق ومعاملة الناس بالتي هي أحسن لا أخشن واحترام العلماء لا تقديسهم.

البحر الزخار متدفق على حدائق الأزهار، فهو لازم كتب جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام ومدارج الكمال والعقد الثمين وبهجة الأنوار وغيرها من كتب فخر المتأخرين وسابق المتقدمين الإمام نور الدين السالمي بملازمة طلابه وقراءة تلك الكتب لها لذا فإن الشيخ الولي يحفظ أين وردت المسألة وفي أي جزء وفي أي صفحة.

اللغة العربية حريص على تعليمها فالملحة والألفية وغيرها ضرورة، وسلامة اللغة عند تعلم كتب الفقه ضرورة فهي ملح الطعام ومن ذا يستسيغ طعاماً بدون ملح وإن كان الطعام جليل القدر، لذا يصحح أخطاء الطلاب مع عتاب فيه قرصات أحيانا.

ميزة أولئك الأوتاد والأطواد والأقطاب أنهم علم جامع لا يعرفون تخصصاً واحداً أي أنهم موسوعيون وهذا دليل سعة اطلاعهم على مختلف فنون العلم.

شيخنا المغفور له بإذن الله وطيب الله ثراه مدرسة سلوكية قبل أن يكون مدرسة معرفية إنه علم مع عمل لذا لا تجد لديه جمع المتناقضات وهي آفة للأسف غزت عددًا من الشباب وابتلي بها أناس التنظير غالب عليهم.

لا يميل الشيخ إلا التفتيش عن خبايا الناس ودواخلهم ولا البحث عن معايب أحد واستخراجها ويكره تنطع طالب العلم واستعجاله في الأحكام كما لا يميل إلى الإيغال في قضايا فقهية للعلماء فيها تباين في وجهات النظر.

ويمتاز الشيخ يحيى بن أحمد الكندي بالجدية في القول والعمل والحزم والعزم ومع ذلك فإنَّ طلابه يزدادون منه قرباً ولا يضيقون ذرعاً وما ذلك إلا لعملهم بأنه جامع للعلم والعمل معاً متجرد عن الدنيا مرتد حلية الأولياء وهو البدر عند الظلماء وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

وقبل مغادرة هذا المقال أكرر أن طلب العلم لذات العلم هو ديدن الشيخ والتواضع هي صفته وقد كنت أقرأ كتاباً فيه علماء عمان وكل عالم تمَّ الحديث عنه بلقب الشيخ أو الشيخ العلامة إلا الشيخ العلامة الكندي فتعجبت حتى رأيت أسفل الصفحة مكتوب بأن الشيخ يحيى رفض إجراء المقابلة إلا أن وفى أصحاب المقابلة بالشرط وهو ألا يكتبوا لقب الشيخ وإنما يخاطبونه باسم الوالد.

لا شك أن في هذا المسلك تعميق لخلق التواضع وعدم التعالي وفيه دعوة لأصحاب الشهادات العلمية عدم الانفعال إذا ما ناداهم أحد باسمهم مجردا. ونقصان الأرض موت علمائها وملحها الحافظ لها علماؤها والكندي رحمه الله علم من أعلام عُمان رزأت بفقده وأصيبت بموته وفقدت نزوى حلقة من سلسلة حلقات عقد وجواهر ومكنون درر ومعارف فمن لحلقات مسجد الردة ومن لهيميان الزاد وتيسير التفسير وشرح النيل؟ ومن لمدارج الكمال وجوهر النظام والعقد الثمين وبهجة الأنوار؟ ومن للنحو وألفية ابن مالك وقطر الندى؟ ومن لمسند الربيع بن حبيب وشرح المسند؟

رحم الله الشيخ يحيى بن أحمد الكندي رحمة واسعة وغفر له وأسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون وكل إليه صائرون.