حُبّ البقاء

 

د. علي زين العابدين الحسيني

باحث وكاتب أزهري

 

تلك كلمةٌ عزيزةٌ تحتاجُ منك عمقَ نظرٍ وإعادةَ ترتيبِ أولوياتك، قرأتها للكاتب الكبير أحمد أمين (ت1954م) حينما جمَع مقالاته في مجلتي "الرسالة" و"الهلال" في كتابٍ واحدٍ، وجرت عادةُ المُصنفين أنّهم يؤلفون بناءً على طلب الأصحاب، أو يكون المُصنِّف مسؤولاً عن تصنيف هذا الكتاب، أو أنّ الحاجةَ ماسةٌ لمثل هذا المصنَّف، وهو ما يختلف مع مقصود "أحمد أمين" مِن جمعه.

وبداية لمن لم يعرف الكاتب "أحمد أمين" فهو أديبٌ كبيرٌ ومفكرٌ ومؤرخ مصريّ، وخيرُ مثالٍ على الإخلاص في العلم والدأب في التحصيل حتى وصل بجهوده إلى أرقى غايات الإبداع، وخلّف لنا  تراثاً هائلاً وكتباً أصيلة يَرجع إليها متذوقو الأدب ومحبو الثقافة، ويكفي منها سيرته الذاتية "حياتي"، فهو وإن تحدَّث فيها عن نفسه إلا أنّه وصَفَ الواقعَ المُحيط به بكلّ أمانةٍ ممّا يجعلُ سيرته في صدارة كُتب السير الذاتية.

 كان "أحمد أمين" صريحاً مع نفسه حين أخبر أنَّ جمْعَ مقالاته في كتابٍ واحد ليس لكونها تحتوي على البدائع من الكلام، أو تنفرد عن غيرها بالروائع، أو تتميز بجودة الأسلوب، أو تتفوق بوضوح المعاني، أو تعتني بجزالة الألفاظ، وكلّ هذا فيها كما يظهر جلياً بمطالعها، وإنّما أراد معنى آخر ربما لا يُنتبه له، وهو أنّ الغرض هو "حبّ البقاء"، وهو مصطلحٌ غريب.

ما معناه؟ وكيف سبيله؟

إنّ حبَّ البقاء عند "أحمد أمين" ليس معناه البقاء الحسيّ، فهو غير مُمكن لأحدٍ، وإنّما البقاء المعنويّ؛ بأن يبقى الذكر، وتظلّ الكلمات رغم موت صاحبها حيَّة في النفوس، وثابتة في الوِجدان، وهذا الحب هو الذي شجَّع "أحمد أمين" على جمع مقالاته في "فيض الخاطر"، وهو كتابٌ يقع في عشر مجلدات، و"حب البقاء" أيضاً هو الذي جعلنا نطالع كتبه ونستفيد منها، و"حب البقاء" هو الذي جعلني أكتب عنه وأنوه بذكره بعد أكثر من ستين سنة عن وفاته.

جميلٌ أن نلتفت جميعاً لمصطلح "حب البقاء" ونحققه، وأفضلُ طريقٍ لكَ فيه أنْ يكونَ لك أثرٌ من علمٍ أو تربية، وبحبّ البقاء تتحمل المصاعب في سبيل بقاء ذكرك بعد الموت، ومن أجل "حُبّ البقاء" ستتغلب على سفاسف أفعال الآخرين.

كمْ مِن أُناسٍ عاشوا مع "أحمد أمين" صاحب "حبّ البقاء" ولم يَعُد لهم ذِكرٌ، وظلّ اسم "أحمد أمين" عالياً تردد الأجيال ذكره، وتعرف الناشئة جهده؛ لأنَّه ترك له أثراً من كلمةٍ طيبة فاز وبقي اسمه بسببها. وبعدُ، فلماذا تَحْرِم نفسك البقاء بعد ذهابك عَن هذه الدنيا؟

تعليق عبر الفيس بوك