الكياسة في السياسة

 

د. صالح الفهدي

ما سُميِّت السياسةُ بهذا الاسم إلاَّ لأنها حملت معاني التدبيرِ والتصرُّف في إدارةِ شؤون الدولِ والشُّعوب، وهي تحملُ أيضاً معاني التعقُّل، والحكمةِ والتبصُّر في هذه الغايات العظيمة، فالطيشُ والتَّهور والبطش والظلم ليست من معانيها، لأنها تخالف أهدافها، وتعارض غاياتها، ولقد أنبأنا التاريخُ قديماً وحديثاً عن عواقب هذه الأدوات البغيضة التي تسحقُ حرية الإنسان، وتذلُّ كرامته، وتقضي على آمالهِ، وتعيق نموِّه في الحياة؛ عواقبُ أبانت بكل جلاءٍ ما وصل إليه الطُغاةُ من نهاياتٍ وخيمةٍ بعد أن دمَّروا مصائر دولهم، وقضوا على الأرواح، وشتتوا مواطنيهم في شتى ربوع الأرض أذلاَّءَ، يتكفَّفون الناس بحثاً عن لقمةٍ يأكلونها، وعن ظلَّةٍ يتفيئونها.

السياسةُ فوقَ المقاصد الشَّخصية الضيقةِ لحاكمٍ يُريدُ لنفسه العرش القائمِ على العنجهيةِ، والقسوةِ، وإثارة الخوف، وممارسةِ التعذيب، واحتكار الرأي، حتى يصلُ به الحال إلى ما وصلَ بفرعون أن قال:" أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلَى" لأن ذاته قد تفخَّمت إلى حدِّ الشعور الضالِّ بالألوهيةِ!

السياسةُ قرينةُ الحكمة، تصلُ إلى مبتغاها بقيادةٍ حكيمةٍ، ورؤيةٍ سديدةٍ، وتديرُ شؤون رعيتها بالعدلِ فهو أساسُ الحكم، والمساواةِ فهي وليدةُ العدل، والكرامة فهي هِبةُ اللهِ، والحرية فهي فضاءُ الطموح البشري.

وما أحوج الشعوب اليوم إلى سياسةٍ مُتعقِّلةٍ، كيِّسةٍ تديرُ شؤون بلدانها بحكمةٍ وازنةٍ، وعقلٍ متبصِّر، فتحفظُ إرث أمَّتها، وتحفظُ حضارة تاريخها، وذلك لا يتم إلاَّ بأن يكون الحاكم صاحبُ نظرةٍ بعيدةٍ المدى، يُدركُ أن كل قرار يتخذه، وكل مسلك يسلكه إنما يصنعُ به مستقبلاً مزهراً لأمته، ولأجلِ هذه الغاية فإنِّه لا يُعنى بالكرسيِّ أكثر من عنايته بشأنِ الأمَّةِ، وقضيَّةِ بقائها، ورسوخِ مبادئها، فالأُمم العظيمة التي أخذت حيِّزاً في سجلَّات التاريخ إنما كان ذلك بفضل سياساتٍ حكيمةٍ، ورؤيةٍ سليمةٍ، وفكرةٍ قويمةٍ، حتى جاءَ من يهدِّمُ مبادئها، ويصرمُ حبالها من حُكَّامٍ اتخذوا من اللهو مركباً، ومن المتعةِ شُغلاً، ومن التعسُّفِ سياسةً، فكتبوا نهاياتِ تلك الأُمم التي أرسى بنيانها رجالٌ عظامٌ في بداياتها، ورسَّخ أركانها ساسةٌ فخامٌ في أوسطها، ثم دمَّرها أشباهُ حكَّامٍ في نهاياتها!!

ولا يستقيمُ السياسيُّ إلاَّ بأن يكون قد خبرَ السياسةِ ومنطلقاتها ودواعيها، فهي غير خاضعة للأمزجةٍ والعواطف، وإنما للمصالح، كما يؤكد ذلك السياسي المحنَّك ونستون تشرشل في قوله:"في السياسة ليس هناك عدوٌ دائمٌ أو صديقٌ دائمٌ هناك مصالحٌ دائمة"، فإن تذمَّر السياسي الحكيم من أمرِ دولةٍ أُخرى أخضعَ الأمرَ للعقلِ، وطلبَ فيه المشورة الخالصة، ولم يقطع في العلاقة، وكذا نسمعُ في الدول التي تخفِّضُ عدد أفراد بعثاتها في دولٍ أخرى نتيجةً لأزمةٍ حدثت، فتلك لوحدها إشارةٌ على مُمارسة السيادة دون قطيعةٍ تامَّة، وهي علامة على "رشدٍ سياسي" لا يخضع للمزاجِ فيعرِّضُ المصالح المشتركة إلى ضرر، ويُؤدي بالاقتصاد إلى هلاك.

والسياسيُّ لن يعي مفهوم السياسة إلا بفهمه الدقيق للتاريخ، لأنَّ التاريخ ليس مجرَّد صفحةٍ لا علاقة بصفحة دون أُخرى بل هو سِلسلةٍ من الأحداث والمواقف متصلةٍ ببعضها البعض، فإن فهم تلك الحلقات التي تربطُ الأحداث سهل عليه أن يُدرك معاني ما يحدثُ في حاضره، فيتصرفُ وفقاً لمقتضيات الأسباب التاريخية.

والسياسي الرشيد هو القادرُ على خلق العلاقات المُتوازنة بين أطرافٍ مُتعارضةٍ فتصبح المسافات التي تجمعهُ مع الفرقاءِ متقاربة، كل طرفٍ يحسبهُ إلى جانبه، حتى يجمع المتعارضون أنه حاكمٌ للجميعِ لا يتحيَّزُ لطرفٍ دون آخر، وإنَّما يُعامل الجميع وفقاً لمبدأ المساواة.

السياسي الحليم هو الذي لا تستفزُّه الآراء المعارضة، وإنما يستفيدُ منها، فيقتربُ من أصحابها بغية الاستفادةِ من آرائهم المُخالفةِ تحقيقاً لمصلحةٍ وطنيةٍ، ولا ينظرُ إليها من منطلق أنها تشكِّل تهديداً لحكمهِ، أو عصياناً على سياسته، بل ينظرُ إليها على أنها مهمة للبناءِ والتقدم، فالآراء المتفرِّدة التي تقصي الآراء المعارضة لن تبنى وحدها وطناً، بل تعدُّد الآراء هو الأصح لأنها تعبِّرُ عن وضعٍ صحيٍّ يخضعُ في نهايته إلى ترشيح الرأي المجمعِ عليه خاصة في المجالس التشريعية.

ما أحوج الدول اليوم إلى حكَّام واعين بالتهديدات التي تحيط بهم، وتمورُ بالفضاءات الداخلية والخارجية لدولهم، حكَّام فطنون لا تضللِّهم ابتسامات الآخرين، ومزحاتهم، فالسياسة ليست ميدان الابتسامة الصادقة، والمزحة البريئة، وإنما ينشغلون بما وراء كل حركةٍ وكلمة. ولقد رأينا كيف أنَّ المحللين النفسيين يحلِّلون طُرق مُصافحة الرؤساء حتى يقلبُ أحدهم كف الآخر ليجعل كفَّه هو الأعلى ومدلول ذلك في السياسة على أنه إشارة إلى الغلبة، أو أن يربت رئيس على ظهر آخر وكأنه يستصغرهُ، أو المعاني الكامنة وراء التحف والصور التي توضع في خلفية لقاء الرؤساء، هذه كلَّها إشارات سياسية عميقة محسوبةٌ بدقَّةٍ، ونابعةٌ من الوعي السياسي لإيصالِ رسالةٍ ما إلى الطرف الآخر.

اليوم لا تتحمَّلُ الدول تعسُّفاً وأمزجةً وتهوُّراً في السياسات فالنتائج باهظة الثمن، تنعكسُ على مصائر الشعوب، ثم تُهدِّد وجود الدولة وسيادتها، بل الدول بحاجة ماسَّة إلى تقويةِ جبهاتها الداخليةِ، والتصرف بحكمةٍ خارجها، وتطويع مواردها لتقوية اقتصاداتها، والتركيز على أُسس التنمية فيها، فإن قويت الدولةُ في اقتصادها، وحصلت على كفايتها من ناتجها القومي، وأصبحت ذات اكتفاءٍ من مؤونتها المعيشية، وقويت صناديقها السيادية مالياً، وفعَّلت الحوكمة في إدارة مؤسساتها، وراجعت تشريعاتها، وهذَّبت قوانينها، وساست رعيتها وفق مبادئ العدل والإنصاف، فقد تكاملت فيها عناصر القوة الداخلية والخارجية، حينها ستقوى شوكتها، ويعلو شأنها، وتمضي مسيرتها في ثقةٍ وثبات.