د. صالح الفهدي
ما الذي يدفعُ موظَّفاً وضِعَ لخدمةِ النَّاس، وتسهيلِ مصالحهم أن يتعالى عليهم ويبطُر؟ كثيرٌ من النَّاس لا تتأذَّى من القوانينِ ولكن ممن يطبِّق القوانين، أو من يزعمُ أنَّه يفهم القوانين وهو أبعدُ الناس عن فهمها..! القوانين جافَّةً في بنودها، لا تعلِّمُ كيفية إيصالها للنَّاس كما هي بعض المواد في المناهج، يُقبلُ عليها المتعلمُ أو يُعرضُ عنها ليس لصعوبتها أو لسهولتها وإنَّما لأسلوبِ المُعلم.
يجدُ بعض الموظفين الذين جُعلوا في الصفوف الأمامية لقضاءِ حاجات الناس أنَّهم في موقعِ نفوذٍ وسلطةٍ على النَّاس، فيشقونهم، ويُمرضونهم، وينغِّصون حياتهم، وهؤلاءِ ينتشرون في أغلبِ المؤسسات الخدمية، فكأنَّ الذي حُمِّل الأمانةَ منهم قد تصوَّر نفسه في مكانةٍ أعلى من الذين يقصدونه لخدمةِ مصالحهم، فكيف يمكن له أن يستشعر بضعفِ النَّاس أمامه، وتذلُّلهم له إن لم يتعالى عليهم بالأسلوب، ويغلظ لهم بالقول، ويشقيهم بالطلب والحضور المُتكرر؟! يخبرني أحد الناس أنه راجعَ إحدى المؤسسات الخدمية فأنهى له الموظف مصلحته سريعاً، يقول: وحينما هممت بالخروج سمعتُ زميله في العمل يؤنِّبهُ بالقول: لماذا أنهيت موضوعه بهذه السرعة، أما كان أفضل لك أن تتعبه بالطلبات، وتنهكهُ بالمراجعات؟ فردَّ عليه: بل فعلتُ هذا ليعرفَ قدرَ فضلي عليه؟ لقد أفسد عملهُ بنيَّتهِ السيئة..!
وإذا كان للقانون من روح فقليلٌ من الموظفين يفهمون روح القانون، لأنَّ شعورهم بالاستعلاءِ على من يقضون مصالحهم يعميهم عن فهم روح القانون، وأعظم سمات هذه الروح هي الأسلوب، وهو ذاته الذي نبَّه الله نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام عليه في قوله الشريف: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران/159).
إنَّ هؤلاءِ الموظفين المتعجرفين المتعالين على الناس يسيئون إلى ثقافة أمَّةٍ تربَّت على حُسن الأخلاق، وتفاخرت بها طيلة أعمارها ومراحلها التاريخية، وعُرفت بين الشعوب برقي تعاملها، وسموِّ فعالها، وهم يسيئون إلى الجهة التي ينتسبون إليها، والتي أُنشئت لخدمةِ الناس بالحسنى والبرِّ، لا بالقهرِ والقسر، والتهديدِ والوعيد، وهم يسيئون إلى الشعور بالوطنية بأساليبهم الغليظة التي تشعر المواطن بالأسى حين يلقى مُعاملةً لا تليقُ به باعتبارهِ مواطناً من قِبل موظفٍ سُخِّرَ لخدمتهِ، وتسهيل إجراءات مصلحته، وهم يُسيئون إلى ثقافةِ شعب، وهُويةِ أمَّةٍ ببطرهِم وكبرهم وتغطرسهم على النَّاس حين يتلذَّذون بتنكيدهم وتنغيص مشاعرهم، وهو يسيئون إلى دينهم العظيم وقيمه الرفيعة، ووصاياه السامية ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير النَّاس أنفعهم للناس) رواه الطبراني، وقوله: (إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ).
يتجاهلون عواقبَ ما يفعلونه من أجلِ شعورٍ بالسلطةِ على النَّاس، وإحساسٍ بالتفوِّقِ عليهم، فما الذي يضيرهم لو أنهم أحسنوا استقبال الناس، وقدَّروا مكانتهم، وهشُّوا وتبسموا في وجهوههم، وعاملوهم بالحُسنى، واجتهدوا قدرَ ما يستطيعون لإنهاءِ مصالحهم؟ والله إنهم سينالون رضا الله والناس، ودعواتهم بالخير لهم. يقول أحد الأشخاص أنه تم استدعائه في جهةٍ ما لشكايةٍ من عاملٍ لديه،
فإذا بالموظف يهدِّدهُ ويتوعَّده، ويطلبُ منه أن يدفعَ حقَّ العامل عليه، يقول صاحب القصة: أنه في الوقت الذي كان ذلك الموظف يغلظ عليَّ في الأسلوب كنت في نفسي أطلبُ الفرج من الله لهذه البليَّة، وما هي إلا دقائق حتى جاءَ الفرج إذ دخل موظف آخر سأل عن القضية فأخبره زميله، فإذا بالموظف الآخر يلطِّف عليَّ الأمر، ويخفِّف عليَّ الحلول، ويؤكِّد أنه يعلم هذه الحيلَ التي يتعرضُ لها كفلاءَ من مكفوليهم، فاستراحت نفسه، وهدأت دقات قلبه.
لننظرُ هنا إلى الموقف: هذان موظفان في دائرة واحدة، الأول متعالٍ ومتعجرف في أسلوبه وفوق ذلك لا يدرك أبعاد القانون، أما الثاني فذو أسلوبٍ حسن، متواضع، دمث الأخلاق، يعرفُ أبعاد القانون، ويعي تحايل البعض، وهنا فإنني أضعُ اللَّوم على الأسباب التي أدَّت إلى وجود موظفين متعجرفين، متسلِّطين على من يفترض أن يكونوا هم السبب وراءَ وجودهم في وظائفهم لخدمة شؤونهم..!
السبب الأول هو أن هذه النوعية من الموظفين المتعالين لا يفهمون قيم دينهم، ولا يطبقونها في أعمالهم، وقد قمتُ شخصياً ببحثٍ حول تطبيق القيم الإسلامية في بيئة العمل فتوصَّلتُ أن التطبيق ضعيفٌ جداً، إذن هؤلاءِ فهموا الدين على أنه مجرد شعائر، أو عادات فارغة من معانيها، وليست قيماً حيَّةً في واقع حياتهم وتعاملاتهم مع الناس.
السبب الثاني: أنه لا توجد ثقافة مؤسسية في المؤسسات التي يعملون بها، ولا أعني بالثقافة المؤسسية الشعارات التي نراها مكتوبة بالخطوط العريضة في البراويز المعلَّقة، وإنما المتأصِّلة في شخصياتهم والواضحة في تعاملاتهم التي تمثّل صورة المؤسسة بحالها فيهم، وتجسِّد سماتها التي تكون عليها.
السبب الثالث: عدم وجود رقابة إدارية عليهم، وهذا يعني أن الرقابة الإدارية ليست مجرَّد مخالفة الموظف على تطبيق بندٍ إداري في مسألةٍ ما بطريقة خاطئة، أو استغلاله الوظيفة لتحقيق مصلحةٍ ما، وإنما تشمل الرقابة الإدارية معرفة كيف يعامل الموظف الناس، وما هي الطرق التي يتبعها لتخليص إجراءاتهم، وقضاء مصالحهم، لكي تتضح لها طرق عمل المؤسسات والأسباب الكامنة وراء بطء الإجراءات فيها.
إن رئيس الوحدة يتحمَّل المسؤولية في وضع موظفين يقومون بخدمة الناس يتصفون بالتيسير على الناس، ويتمتعون بأخلاقيات رفيعة، ويمتلكون كفاءات قديرة، أو على عكسهم، وهذا الأمر يبدأ من طُرق الاختيار للوظيفة، والثقافة المؤسسية الشائعة والمترسخة، والرقابة الإدارية عليهم.
وإذا ما أردنا أن نحلَّ إشكالات تسهيل إجراءات العمل فإن هذه النوعية من الموظفين المتسلطين على الناس لا يجب أن يحتلوا المواقع الأمامية لخدمة الناس، وإنما يجب وضعهم في وظائف تناسبهم إن لم يحسنوا التواضع ولا التعامل السهل ولا التبسم والبشاشة في الوجوه ولا تقدير الناس ولا الاجتهاد في قضاء مصالحهم، ووضع الموظفين المتصفين بتلك الصفات، حينها سترى المؤسسات نتائج ذلك في مستوى تقديم الخدمات ورضا الناس عنها.
الذين يتعالون على الأمانةِ التي كلِّفوا إياها وهي خدمةُ الناس إنَّما هم أنانيون، نرجسيون لا يهمَّهم إلا ذلك الشعور الزائف بالسلطةِ، والفوقية على الآخرين، هؤلاءِ هم كالنباتات الضارةِ التي تمتصُ الماء عن الأشجار المثمرة، فقد عطَّلوا مصالحَ الناس، وحِراك التنمية، وسيرورة البناء، فإن أُريدَ لأيَّ وطنٍ من ازدهار وتنمية حقيقية وجبَ أن يوضع الموظف المناسب –على اختلاف مستويات الوظيفة- في المكان المناسب، هذا هو الأساس الحقيقي الذي تُبنى عليه الأوطان، وتقوم به المجتمعات.