رأس المال الفكري

 

 

د. رضية بنت سليمان الحبسية

Radhiyaalhabsi@gmail.com

تواجهُ المؤسساتُ العديدَ من التّحدياتِ في إطارِ سعيها لتطويرِ أنظمتها بدءًا بالهياكل والسياسات والإجراءات التنظيمية. ويأتي العنصرُ البشري أبرز تلك التّحديات وأشدّها تأزمًا؛ لما يتسم به ذلك الكائن من تكوين غاية في التّعقيد. وفي ذاتِ الوقت يمثّلُ عصب الاقتصاد لأي مؤسسة، وفق مفهوم رأس المال الفكري أو المعرفي، الذي يتلخصُ في قدرةِ المؤسسات على المنافسةِ وتحقيق النّجاح. لذا؛ فإنّ التّعاملَ الفعّال مع قُطبي هذه المعادلة، يُعدُّ نجاحًا للقيادةِ الإدارية وتميّزًا للمؤسسةِ ذاتها.

ولا تخلو كتب الإدارة والقيادة، من الإشارة إلى أن كلا المفهومين علمٌ وفنٌ. فالحاصل أنّ كل قائد ومدير بحاجة للعلوم والأسس الفكرية في مجال الإدارة والقيادة، متزامنة مع فنون ومهارات المدير أو القائد. فيتم التمكّن من الخلفيات العلمية لكل من الإدارة والقيادة من خلال الدراسة والاطلاع على أدبياتِ تلك العلوم. في حين تُكتسب المهارة والفِراسة لممارسة الإدارة والقيادة بالخبرات المتراكمة، والتدريب، فضلًا عن الخصائص الكاريزمية التي يتفرّد بها شخصًا دون غيره.

وبالتّأمل في واقعنا المعاصر، نُلاحظ أنّ التّغيرات المتسارعة التي تتصدّر المشهد العالمي، لها انعكاسات متشّعبة على موارد المؤسسات قاطبة، تمثّلت تلك الانعكاسات بين فُرص وتحديات. فمن الفُرص التي مَكنّت المؤسسات من تمكين موردها البشري، على اعتباره الطاقة الكامنة لتجويد مخرجاتها وتطوير أساليب تقديم الخدمات للمستفيدين منها. فوظّفت قدراتها ومواردها المالية للاستفادة من الاتجاهات الفكرية في تنمية الموارد البشرية، بأساليب تدريبية وتأهيلية متنوعة. 

وبالمقابل، فإنّ من التّحديات التي تسبب خللًا واضطرابًا في عمل المنظمة، مما لا يمكن توقعها أو البحث عن حلول لها بين مكنونات الكتب والنظريات والدراسات العلميّة. الأمر الذي يُعلي من أهمية دور القائد الإداري باعتباره العامل الأكثر نجاعة في مواجهة تلك التّحديات وإدارتها بجدارة، وذلك باستغلال مهاراته وإمكاناته الشخصية، وقدراته الذاتية في متابعة ورصد وتحليل واقع تلك التّحديات؛ للوصول إلى أفضل الحلول في تقليلِ آثارها وانعكاساتها السلبيّة.

ويأتي في مقدمةِ هذه التّحديات: التّحديات ذات العلاقة اللصيقة بالعنصرِ البشريّ على وجه الخصوص. ففي ظل محاولة المؤسسات لتفعيل أدوار موردها البشريّ؛ بهدف تطوير أنشطتها وتحقيق رؤاها المستقبلية، تواجه مقاومة ذلك المورد، لاعتبارات قد تكون شخصيّة، أو كردة فعل سلبيّة؛ لقلة الرضا الوظيفيّ. فعلى الرغم من وجود حالات قادرة على الانتاج برغم المحبطات أو المنغصات المحيطة به في بيئة عمله، أو في ظل ضغوطات العمل المتراكمة والمستجدة، إلّا أن الغالبية العظمى تنحى منحى اللامُبالاة، والتذمّر، أو النّقد، والتثّبيط. فينتج ما يسمى بالتّرهل الوظيفي، يتمثل في وجود بطاقات وصف وظيفي لمسميات وظيفية لا محل لها من الإعراب.

إنَّ جهود الإداري على رأس المستويات التنفيذية في تفعيل وتحفيز منسوبي قطاعه، تذهب في مهب الريح في ظل عدم تساوي السّلطة والمسؤولية. فيظل عمله في دوامة لا مخرج لها بين شدّ وجذب، والحال أسوأ وأعظم وقعًا في ظل غياب المحاسبية والمسؤولية والرقابة المؤسسية. فعلى الرغم من الأصوات التي تنادي بحوكمة المؤسسات، إلا أنّ واقع تطبيقها يأتي متناثرًا بين مبدأ ونظيره، وتبقى الحلقة مفقودة، والفجوة تتسع. فيحدث ما يحدث من ظواهر نعيشها اليوم: تتمثل في قلة الالتزام الوظيفيّ، والركون إلى الراحة.  والأكثر مرارة تغيّر المفاهيم بين الحقوق والواجبات، بين المكافأة والمساءلة، وما بين الإنسانية والمسؤولية الوظيفية. فقد أفرزت لنا الأزمة الحالية في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، من النماذج التي لا تخفى على أحد، مما يؤرق فكر المسؤولين في تلك المستويات، وتستنزف جهدهم ووقتهم على حساب الإبداع والإنتاج، تخطيطًّا وتنفيذًا.

إنّ ما تزامن مع تأثيرات جائحة فيروس كورونا، التي فرضت على بقاء العديد من الكوادر البشريّة في منزلها تحت مسمى "العمل عن بُعد"، يمثل في واقع الأمر إجازة براتب كامل. فلا إنجاز حقيقي لكثيرٍ من الوظائف، ولا متابعة دقيقة، أو تقييم عادل لشاغليها؛ مما يُؤكد واقع التّرهل الوظيفي في كثير من المؤسسات الخدمية. وإذا ما سلّمنا إلى أنّ توجه كثير من الحكومات نحو أرشقة الهياكل التنظيمية لمؤسساتها، يُعدّ توجهًا حكيمًا لمعالجة تلك القضية، إذا ما تم تطبيقه بفكرٍ حكيم، إلّا أنّه ومع هذه المعالجة فلا بدّ من القيام ببعض المعالجات الداخلية الأخرى على مستوى المؤسسة الواحدة، على سبيل المثال:

إعادة النّظر في كثيرٍ من القوانين والأنظمة والبروتوكولات الإداريّة؛ لتنسجم مع مفهوم الهياكل الرشيقة أو التنّظيم المرن، تبنّي مبدأ المركزية واللامركزية في اتخاذ القرارات من خلال تفويض الصلاحيات، ومراجعة بطاقات الوصف الوظيفي للعديد من المسميّات الوظيفيّة، وإعادة تدوير تلك الكوادر بين قطاعات العمل الداخليّة، وإعداد خطط إجرائيّة؛ لإعادة تأهيل الموظفين وإكسابهم مهارات جديدة؛ للقيام بأدوار أكثر إيجابية، خاصة لمن لا يزال أمامه العديد من السنوات حتى سن التّقاعد الوظيفيّ.

وختامًا: العملُ الوظيفيّ أمانةٌ ومسؤوليةٌ، تتطلبُ أدائه بإخلاصٍ مهنيّ، ورقابة ذاتية، ودافعية وظيفيّة. فلا يجوز جعل الرضا الوظيفيّ من عدمه شمّاعة، أو مبررّا للتّجاوزاتِ في أداءِ الواجبات الوظيفيّة. فالعمل في المؤسساتِ الخدمية ينبغي أنْ يكون نابعّا عن رغبةٍ جادة، واختيار رصين لمستقبلِ العمل الوظيفيّ. فذلك مدعاة لأنْ يكون حائطُ صدّ منيع لأية تقلبات أو تحديات مجتمعيّة محلية أو عالمية غير محسوبة. وقد أكدّ لنا المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد في خطابه السنوي أمام مجلس عمان المنعقد في العام 2001م: أنّ العمل الجاد ليس هواية يُمارسها الفرد متى شاء، بل العمل جزء لا يتجزأ من العبادة، وبالتالي يجب أداؤه بإخلاص وإتقان وأمانة.

تعليق عبر الفيس بوك