سعي الشغف

 

فاطمة الحارثية

 

أخذت مني فكرة الموضوع وقتًا وهي في تعاشق بين التعبير حبرا وخيالا وتصورا، كحالمة تشتهي رسم الخيال والواقع على ورق مُجهد في آن واحد؛ أن أجعلك في ركب مع دواخل عاصفة تعيشها وتقطن فينا جميعاً وإن تباينت الاهتمامات والظروف، لأتغلغل داخل مخيلتك وآخذك معي عبر طيات الشغف وجسور السعي، أن أوصل إليك ماهية مهارة الشغف وخلجات السعي، ليس بالهين الإبحار والفكر يموج بعواطف هوجاء، وميناء السلام لم يتخطَ أوتار صوت ماجدة الرومي؛ تختلف أفكارنا وأسبابنا ولكننا نجتمع في سماء العواطف والشعور عمقاً.

يُحكى أنَّه منذ القدم تعلقنا بالشغف، وتلاعب بنا كأغصان التوت في مساءٍ عاصف، بنى لنا الأحلام وسرج لنا الطريق، كوقود يأسر القلب حماساً، بدونه لا طعم أو سعي أو عزم أو مذاق لأيِّ شيء، بدونه تعيش الرغبات في ضلال، ويطغى على الشوق سديم موحش، ووهن على قوى التشبث بهدف أو حياة، أو حتى عزم لإتمام علاقة أو عمل، هم الناس ببساطتهم وفطرتهم، ومع كل قوى العقل التي نمتلكها لن يشتعل أو يتأجج فتيل الإنجاز في دواخلنا، ما لم يُسقَ بإكسير الشغف:

  • أنت مبدع، وأداؤك جيد جدًا، كيف تمكنت من رفع الكفاءة بهذه السرعة؟
  • تركت السعي خلف المُستحيل وسعيت للممكن لأجد أنني حققت المستحيل.
  • ألغز هذا أم تمويه عن الإفصاح؟
  • لا، ليس القصد، أدركت ألا شيء يدوم، ويعتاد الناس سريعاً على الغياب، ولقد جُبلنا على النسيان أو لأقل نسيان حاجات بعضنا البعض واللامبالاة، فتركت الناس واشتغلت على نفسي، فهي ملاذي وجوهر وجودي، ودخلت في ذاتي لأتعلم منها أقصى ما أستطيع فعله، لأدرك الحدود، وأعي الشفق الخاص بي، بكل بساطة- الأمر ليس في فعل ما هو مطلوب، بل قراءة ما لم يُقال، لأستمتع بالنتائج؛ فأدركت المستطاع وتركت الكبر والعناد.
  • تعني السهل الممتع.
  • بل البسيط المُميز.

تمر الأيام علينا سريعاً حتى لا نكاد نتنفس منجزاتنا الصغيرة أو الكبيرة، لنلمس تغيرات جذرية تصيبنا "بزهايمر الواقع"، إننا نفقد الحاضر، ولا يسعنا الاحتفاء به أو الزهو بأعماله، ونحن في معمعة طمع الاستمرار والتحسين، لتبلغ بعض الحالات تيها بين المنفعة الحقيقية والاستعراض، لكثر ما تم تغييرة بحجة "التجديد" أو لنقل البحث عن كماله.  يستنكر معظمنا أننا نبحث عن الكمال ويقر قولاً أن الكمال ليس مُمكنا لأنه يُمثل نهاية الشيء، لكن في لحظة صدق أو لست تبحث عنه خلسة وتصر على المثالية أيضاً؟؛ أعلم أننا نتحدث كثيرًا عن عجزنا الإنساني، وعن فضائل الإقرار بالحقيقة، ونتفق على أن نقول ما لا نفعل في آخر المطاف.

قد لا تكون محبوبًا، أو ربما تبذل الكثير من الجهد من أجل أن تكسب ود من حولك، أو تبحث عن صديق صادق، أو قريب تثق به، أو أن تقع بين براثن العشق أو الثراء، وربما بين الفينة والأخرى تصدح بأنَّ الأمر لا يهمك، وأنت تحترق رغبة به، إننا يا سادة لا نستطيع أن نخرج من ثوب الفطرة إلا بقبولها والتعلم عن كيفية التعامل معها وليس إنكارها؛ كلنا نبذل الكثير من أجل أن نلفت الانتباه منذ نعومة أصابعنا، لا عيب في الإقرار بذلك، لا عيب أن ترغب بسماع قول ليّن، أو الانتقام من أحدهم، أو لعب دور الطيب أو حتى قبول أن مشاهد الشر والدماء تُمتعك، فأنت لن تكون حليماً أو قاتلاً من مجرد الرغبة، لكنك قد تكون كذلك إن امتزجت الرغبة بقوى الشغف وسعة الحيلة.

إن تحويل الألم والضرر إلى مادة "نافعة" إعلامياً لهو أمر مُبتذل، والتزلف مثله مثل التَّصيد ليس مهارة ولا قوة كفاءة نركن إليها، ومع ذلك قد بات العالم ينتظر الحمد والثناء لفعل حقيقي أو حتى وهم على ورق من كل حدب وصوب، بل حتى أنَّ رغبة الزهو والتشدق ولفت الانتباه تجاوز مستوى الفردية إلى الأسرة، والعائلة، والقبيلة والمخلوقات إلى الدول حتى أنَّ البعض يحاول أن يأتي به على مستوى الكواكب والمجرات؛ إنه اشتغال في لهو الحياة الدنيا عن الخلافة، لتطغى أعمال المديح والتصنع وزيادة المتابعين على أعمال صُنعت لوجه الله والخير للخير.

جسر...

لا شيء يقف لأجلك، الكل يمضي، فأستمر بالمشي ولا حاجة للالتفات من حولك، فالقبور تبقى موحشة حتى في وضح النهار.

ضجيج الأوهام كم هو عالٍ.