نحن ومكعبات السكر
أ. د. حيدر أحمد اللواتي
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
وأنت ترتشف قهوتك في الصباح الباكر تأمَّل الكرسي الذي تجلس عليه والطاولة التي أمامك وكوب القهوة التي تستمتع بمذاقها، فإذا رفعت بصرك إلى نافذتك فستجد أشجارًا وسماء وجبالاً وغيرها من الأشكال والصور المادية، ترى هل هذه الأشكال المادية المختلفة تشترك في أصل واحد؟ أم أنها تختلف في أصولها؟
لا نعرف ماهو السر الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأنَّ هذه المواد تشترك في أصولها، فلقد افترضت البشرية ومنذ أمد بعيد أنَّ أصل هذا الأشكال المادية مشترك وأنَّ أشكالها المُختلفة ترجع إلى أصل مشترك، ولهذا فالسؤال الذي كان يُلح في أذهان البعض وشغل بالهم حتى قضوا شطراً من حياتهم يبحثون عن إجابة له هو عن أصل الأشكال المختلفة من المادة، هذا الفضول هو الذي دفع العلماء لأن يغوصوا في عمق المادة محاولين الوصول إلى هذه الأصول الأولى لها.
وتُشير المصادر التاريخية إلى أنَّ اليونانيين ذكروا العالم بأنَّ المواد المختلفة ترجع في أصولها إلى أربع مواد أساسية وهي الماء والهواء والنار والتراب، واستمرت هذه الفكرة مُسيطرة لقرون من الزمن. وفي القرن الثامن عشر تبين أنَّ الماء مُركب مكون من عناصر أولية وكذلك الهواء وذلك على يد الكيميائي الكبير لافوزيه، واستمر البحث العلمي في البحث والتنقيب، وبعد ما يُقارب ٢٢٠٠ سنة توصلت البشرية إلى نتيجة مفادها أنَّ المادة بأشكالها المختلفة التي نشاهدها في هذا الكون الرحيب من كواكب ومجرات وسهول وجبال بل وحتى القهوة التي تشربها كل صباح تتكون من عناصر تكون اللبنة الأساسية لهذا الكون ويزيد عدد هذه العناصر عن المائة عنصر، وكل عنصر من هذه العناصر يتكون من ذرات خاصة بالعنصر لها خصائص فيزيائية مُعينة.
ولكي تُدرك عظم هذا الاكتشاف الذي شغل عقل البشرية كل هذه القرون فيمكنك أن تأخذ شعرة من رأسك وتضعها أمام عينيك، وتمعن في عرضها وحاول أن تقوم بتقسيمها في مُخيلتك إلى مليون قسم، فكل قسم من المليون سيحوي حوالي ذرة كربون واحدة.
أما إذا كنت غير راغب في شد شعرة رأسك فيُمكنك عوضاً عنها أن تأخذ ورقة بيضاء وتمعن في سمكها. ترى كم ذرة تتواجد في سمك هذه الورقة؟
إنَّ ذلك يعتمد على سمك الورقة ولكن وبشكل عام يمكننا أن نقول بأنَّ حوالي مليون ذرة معاً هو سمك هذه الورقة التي بيدك، فإذا أردت أن تصل إلى ذرة واحدة فما عليك سوى أن تقوم بتقطيع سمك هذه الورقة إلى مليون قطعة، وبهذا ستصل إلى ذرة واحدة، ولكن أنصحك ألا تُحاول ذلك لأنك ستقضي حياتك كلها دون أن تصل إلى غايتك.
ولك الحق بأن تتساءل كيف أمكننا نحن البشر أن نصل إلى هذه الذرة ونقطع بوجودها، والجواب ببساطة يكمن في الفضول العلمي الذي يدفع العالم دفعاً نحو المعرفة والبحث والتقصي وبما يمتلك من إرادة وعزيمة مستعيناً بما وهبه الخالق من إمكانات عقلية خارقة لا تضاهيه كل المخلوقات التي وجدت على هذه البسيطة.
إنَّ هذا الفضول وشغف المعرفة لدى هذا الكائن الذي يدعى "الإنسان" ليس له حد ولا يصل إلى نهاية، وبدأ السؤال حول هذه الذرات. فهل هي مُصمتة؟ أم أنها تتكون من أجزاء؟
ولم يطل الأمر طويلاً فتم اكتشاف أنَّ جميع ذرات العناصر المختلفة تتكون من ثلاثة جسيمات فقط وهي البروتون والنيوترون ويكونان معاً نواة الذرة وجسيم الإلكترون الذي يدور حول نواتها، وبهذا توصل الإنسان إلى إنجاز عظيم وتحقق من صحة حدسه فكل ما يقع تحت بصرك أو تلمسه بيدك أو تتذوقه بلسانك مكون من هذه الجسيمات الثلاثة.
لكن الغريب في الأمر أنَّ البحوث العلمية أثبت أن هناك مكوناً أساسياً آخر في الذرة، وأن هذا المكون الأساسي يشغل أكثر من ٩٩.٩٩٩٪ من حجم الذرة. فهل لك أن تخمن ما هو هذا المكون؟
لا شك أنَّ لهذا المكون أهمية بالغة إذ إنَّ أغلب أجسامنا تتكون منه، ولذا فمن الضرورة بمكان التعرف عليه.
إنِّه الفراغ! فلقد تمَّ التحقق بأن الذرة في معظمها خواء لا شيء فيها ولكي ندرك حجم الفراغ الموجود في هذه الذرات، علينا أن نقوم بسد هذا الفراغ الموجود في الذرات المكونة لأجسادنا، ولو أمكننا فعل ذلك لأمكننا أن نجمع البشرية في مكعبات صغيرة تشابه مكعبات السكر، ولأصبحنا ومكعبات السكر بحجم واحد.
ولهذا لا تصب جام غضبك على من وصفك بأنك خواء لا شيء فيك، فتلك حقيقة أثبتها العلم، فنحن وكل الكائنات في أصلنا مجرد خواء كبير.
**
(عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف إلى نشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة تثير الخيال البشري وتجعله يحلق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها)
مصادر المقالة
١-Quantum Theory Cannot Hurt You, A Guide to the Universe – Marcus Chown
٢- إسهامات الحضارة اليونانية في تطور العلوم الطبيعية، مجلة شرق غرب العدد ١٧، حيدر اللواتي
٣-
A Little History of Science – William Bynum