عندما تنهار البديهيات!! (5)

حذارٍ أن تلتقي بضدك!

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي *

هل حاولت أن تقوم بإعداد وجبة طعام مكونة من وجبتين مُختلفتين من الطعام، كلا الوجبتين تعدُّ الأفضل لديك؟ إذا لم تجرب ذلك بعد، فأنصحك بأن تجربه؛ فلربما تخرج بوجبة لم تذق بألذ منها في حياتك.

هذا ما حدث للعالِم الفيزيائي الكبير ديراك في ثلاثينيات القرن الماضي، فإعجابه بنظرية الكم والنظرية النسبية جعله يقوم بدراسة حول الإلكترون الذي يسير بسرعات فائقة تقترب من سرعة الضوء، وبدراسته لهذه الظاهرة فقد حاول أن يجمع بين نظريتيْن عملاقتيْن ورائعتيْن؛ هما: النسبية الخاصة؛ وهي التي تفسر لنا مسار الأجسام التي تسير بسرعة فائقة تقترب من سرعة الضوء، وبين نظرية الكم التي نجحت في تفسير الظواهر الذرية وما دون الذرية بنجاح ودقة مدهشة.. لقد كان ديراك مُحقًّا؛ فجمعُه لهاتين النظريتين أنتج وجبة فيزيائية دسمة جدا، ليس للفيزياء فحسب بل للعقل البشري عموما، فلقد أنتجت نتائج انهارت معها كل البديهيات!! 

إنَّ خلطة المعادلات الجديدة أشارت إلى ظاهرة في غاية الغرابة؛ فكما نعلم فإنَّ المعادلة التربيعية توفِّر حليْن رياضيين، وعادةً يكون أحد الحلَّين له واقع فيزيائي، ولكن ديراك افترض أنَّ كِلا الحلين لهما واقع فيزيائي، وكان من نتائج هذا الفرض أنَّ الإلكترون له ضد، وهذا الضد يحمل صفات الإلكترون تماما فتبلغ كتلته ٩.١١ x ١٠ -٣١ كجم تماما ككتلة الإلكترون، لكنه يختلف عن الإلكترون في الشحنة فحسب، وقد أسمَاه ديراك بالإلكترون المضاد، ولم يمض وقت طويل حتى تم رصد الإلكترون المضاد وسمي بالبوسيترون.

ولم يتوقَّف ديراك عند الإلكترونات، بل اقترح أنَّ جميع الجسيمات الذرية لها جسيمات مضادة؛ فالبروتون له جسيم مُضاد، والنيوترون على الرغم من كونه متعادلًا كهربائيًّا، إلا أن له جسيمًا مضادًا أيضا يحمل شحنة صفرية مضادة!

وكما ذكرنا -في مقال سابق- فإنَّ الذرة تتكون من نواة تحمل جسيما موجبا وهو البروتون، إضافة لجسيم آخر متعادل الشحنة ويدعى النيترون، وجسيم صغير يدور حول النواة ويحمل شحنة سالبة ويدعى بالإلكترون. لذا؛ فلقد تساءل العلماء عن إمكانية تصنيع ذرة مضادة، فهل بإمكاننا أن نجمع البروتون سالبَ الشحنة مع النيترون لنكوِّن نواة هيدروجين سالبة الشحنة، ومن ثم نقرب منها بوسيترونا موجب الشحنة، فنكون ذرة هيدروجين مضاد؟!

وفي القرن الواحد والعشرين، وبالتحديد في العام 2010، تحقق للعلماء ما تخيَّلوه؛ فلقد استطاع عددٌ منهم من القيام بتجربة علمية دقيقة قاموا بتقريب البوسيترون (الإلكترون المضاد ذو الشحنة الموجبة) من النيوترون والبروتون المضاد (ذو الشحنة السالبة)؛ لتنتج أول ذرات الهيدروجين المضاد المكونة من بروتون يحمل شحنة سالبة ونيوترون وإلكترون يدور حول النواة ويحمل شحنة موجبة، ونظرًا لعدم استقرار هذه الذرة فلقد تلاشت بعد حوالي 20 دقيقة. 

ولأنَّ خيال الإنسان لا حدَّ له، فمن حقنا أن نحلِّق في فضاء رحب؛ فما الذي يمنع من أن يكون هناك ماء مضاد أيضا؟ أليس الماء هو مركب من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين؟ فلو قمنا بجمع ذرتيْ هيدروجين مُضادتين مع ذرة أكسجين مضادة لحصلنا على ماء مضاد!!

ومن هذه المركبات المضادة، يُمكننا أن نصل إلى أنسجة مضادة وخلايا مضادة وكائنات مضادة، وإنسان مضاد، وربما هناك مضاد لك أيضا في زاوية من زوايا هذا الكون الواسع اللامتناهي.

وهذا ما حاول العلماء القيام به، لكنَّ البحث والتقصي في زوايا الكون الواسع الرحب لم يوصلنا إلى نتيجة؛ فلا وجود للمادة المضادة؛ فالكون يتكون من مادة، ومادة مظلمة وطاقة مظلمة، ولم نعثر على ما يدل على وجود هذه المادة المضادة.

تُرى: ما هو السر الذي جعل الكون يتكون من المادة، وليس من المادة المضادة؟ حاليًا لم يتوصل العلماء بعد إلى أية إجابة شافية، ولكن رُبما في المستقبل سنصل إلى إجابة عن هذا السؤال؛ فالبحوث العلمية مستمرة في هذا المجال رغم كلفتها الخيالية، فنحن بإمكاننا أن ننتج كميات بسيطة جدا في الوقت الحالي لا تتجاوز ١٠-١٢ جراما من المادة المضادة، وإذا استطعنا في المستقبل أن ننتج كميات أكبر، فسيكون بإمكاننا دراسة هذه المادة المضادة وربما تفتح لنا أفقا أوسع لفهمها.

ولكن مهلا.. ألا يُمكن أن يكون هناك كون آخر مكوَّن من المادة المضادة؟ وفي ذلك الكون يوجد مضاد لك وبنفس صفاتك! من يَدري ربما ستلتقي به في عالم يجمعك بضدك لكن انتبه، فإذا التقيت يومًا ما بضدك فابتعد عنه ولا تلمسه، لأنَّ الجسيمات عندما تلتقي بالجسيمات المضادة فإنهما يختفيان معا، وتحدث لهما إبادة كاملة؛ إذ يتحولان إلى طاقة عالية؛ لذا حذارٍ أن تلمسه!!

قد يتساءل البعض: وما هو الأثر العملي لهذا النوع من المعارف؟ أليس هذه ترفا فكريا وإضاعة للجهود والموارد؟ فما الذي ستجنيه البشرية من تصنيع المادة المضادة؟ والجواب أن هذه المادة المضادة عندما تصطدم بالمادة المعتادة، فإن كفاءة العملية تكون بنسبة 100% وهذا يعني أنَّ الكتلة برمتها تحولت إلى طاقة، ولكي نتصوَّر كفاءة هذه العملية فيكفي أن نعلم بأنَّ كفاءة القنبلة الهيدروجينية تصل إلى حوالي 1% بل حتى الثقوب السوداء فإن كفاءتها في تحويل الكتلة إلى طاقة تصل إلى حوالي 43%. 

لهذا؛ إذا التقيت بضدك وسلَّمت عليه فإن الطاقة الناتجة عن هذا التصادم ستكفي العالم لقرون من الزمان، خاصة إذا كنت من أصحاب الوزن الثقيل.

من يَدري رُبما نصل في المستقبل إلى إنتاج طاقة من خلال إنتاج المادة المضادة وتكون هي مصدر طاقة العالم برمته أو ربما مصدر فنائه!!

------------------------

مصادر المقال:

1- We Have No Idea, A Guide to the Unknown Universe – Jorge Cham, Daniel Whiteson

2- Carlo Rovelli, Seven Brief Lessons on physics

3- Quantum Theory Cannot Hurt You, A Guide to the Universe – Marcus Chown

 

* "عندما تنهار البديهيات".. سلسلة من مقالات علمية تهدف لنشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة تثير الخيال البشري، وتجعله يحلق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها.

 

* كلية العلوم - جامعة السلطان قابوس