عندما تنهار البديهيات!! (4)

جسيم حير العقول

أ.د. حيدر أحمد اللواتي *

تهتز جوارحي ويقشعر جسدي ويخفق قلبي بشدة وأنا أتحدث عن هذا الجسيم الصغير، ولا أعرف هل هو صغير بحق أم متناهي الصغر، أم أنَّه مخلوق مادي من صنف مادة لا نُدركها ولا نعقلها، حيث تبلغ كتلته ٩.١١ x ١٠ .٣١ كغم، وهي كما تراها كتلة متناهية الصغر، ولكن هذا الجسيم يلعب دورًا محوريا في حياتك، فكل العمليات الكيميائية التي تحدث في هذا الكون نتيجة تحركات هذا الإلكترون فحياتك بأسرها، من صبحها إلى ليلها تتحكم بها حركة هذا الجسيم، فنومك إنما هو نتيجة لحركته من مركب كيميائي إلى آخر تدفعك إلى النوم، ويقظتك كذلك، وفرحك وسرورك، حزنك وشعورك بالألم كل ذلك يلعب فيه هذا الجسيم دورا كبيرا، وباختصار فإنَّ علم الكيمياء بأسره قائم على حركة هذا الجسيم، فكل مركب جديد نتج من تفاعل كيميائي إنما هو نتيجة حركة هذا الجسيم وانتقاله من مركب إلى آخر، ولهذا فنحن الكيميائيين كل ما نقوم به في حياتنا أننا نتابع حركة هذا الجسيم وكيف ينتقل من مركب إلى آخر!

وعلى الرغم من دوره الحيوي الكبير في حياتنا إلا أننا لم نستطع أن نكتشفه إلا في القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين تم تأكيد وجوده وتفسير حركته في المركبات الكيميائية. هل عرفتموه؟ إنه جسيم من مكونات الذرة ويدعى الإلكترون.

ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر تم التوصل إلى أن جميع المواد المكونة لهذا العالم المادي تتكون من عناصر أساسية وهذه العناصر تتكون من ذرات، وقد تمَّ جمع ذرات العناصر في جدول سُمي بالجدول الدوري وكان الاعتقاد السائد أن هذه الذرات هي "الجزء الذي لا يتجزأ من المادة"، فهي كرات مُصمتة لا يُمكن تقسيمها أو شطرها، ومع استمرار البحث العلمي، وفي تجربة مثيرة قام بها العالم تومسون وذلك في نهاية القرن التاسع عشر، أوضح من خلالها أن هناك جسيمات صغيرة تنبعث من الذرات وهذه الجسيمات تحمل شحنات سالبة كما أنَّ وزنها يقل بآلاف المرات عن وزن الذرات، وسمي الجسيم بالإلكترون.

لكن تصرف الإلكترون في الطبيعة مريب بحق، فهو في تجارب معينة يتصرف كما تتصرف الأمواج وتارة أخرى يتصرف كجسيمات، مما أدى إلى انقسام في الوسط العلمي فهل الإلكترون موجة؟ أم جسيم؟

وقبل أن نكمل القصة، سأقوم بتوضيح بسيط حول تصرف الأجسام وتصرف الأمواج لتوضيح الأمر ورفع أي لبس في الموضوع.

لقد لوحظ أنَّ الأجسام تتصرف بشكل مغاير للأمواج فالكرة جسم وعندما تصطدم بكرة أخرى فإنها ترتد عند الاصطدام، بينما نجد أنَّ الموجات المتصادمة تتداخل مع بعضها البعض ثم تندمج مكونة موجة واحدة، فإذا التقت قمتان من موجتين مختلفتين فإنهما تتداخلان مكونات موجة بقمة أكبر ويمكننا ملاحظة ذلك على الشواطئ بصورة واضحة وجلية، إذ إنه في حالات معينة نجد أن موجة عملاقة قد تكونت وهي نتيجة تصادم قمتين من موجتين صغيرتين ولذا فواحدة من الفروقات بين تصرف الأمواج والأجسام، أن الأمواج تتداخل مع بعضها إذا التقت بينما تتصادم الأجسام إذا التقت، ولذا فالتداخل صفة تميز الأمواج عن الأجسام.

لقد لوحظ وفي عشرات التجارب الدقيقة جداً أن الإلكترون لا يستقر على تصرفه بصفات تختص بالأجسام فقط، بل لديه القدرة على أن يتصرف كالأجسام فيرتد عند اصطدامه بإلكترون آخر في تجارب معينة كما أن لديه القدرة على أن يتصرف كالأمواج فيتداخل مع إلكترون آخر كما تتداخل الأمواج في تجارب أخرى.

هذا التصرف المريب من الإلكترون أوجد كثيرا من الإرباك لدى المختصين، وبعد مزيد من البحث والتدقيق، والعناء والمشقة والتفكير توصل علماء الطبيعة إلى نتيجة مفادها أن الإلكترونات تمتلك خصائص مزدوجة تجمع بين خصائص الموجة والجسيم ولديها القدرة على التصرف كجسيمات وكموجات.

حسناً وما الذي يحدد تصرفها كموجة أو جسيم؟

أجابوا بإجابة انهارت معها كل البديهيات فقالوا بأن ذلك يعتمد على الخصائص التي يريد الراصد (وهو العالم الذي يقوم بإجراء التجربة) أن يكشفها من تجربته، فإذا كان الراصد يريد أن يكشف عن موقع الإلكترون وهي خاصية تختص بالأجسام فإن الإلكترون يتصرف كجسيم أما إذا افترض الراصد بأن الإلكترون موجة وأراد أن يشاهد كيف تتداخل الإلكترونات فإن الإلكترون يقوم بتغيير سلوكه ويتصرف كموجة!!.

هل تصدق ما يقولون، العالم الذي يقوم بإعداد التجربة هو من يُحدد طريقة تصرف الإلكترون!!

إنَّ علماء الطبيعة يقولون إن تصرف الإلكترون يتأثر بطريقة قيامك بالتجربة فعليك وقبل القيام بالتجربة أن تحدد كيف تريد من الإلكترون أن يتصرف، هل تريده أن يتصرف كجسيم. حسنًا، بإمكانك القيام بذلك، أما إذا تعكر مزاجك وفضلت موج البحر وهدوءه فلك ذلك ويمكنك تغيير تصرف الإلكترون وتجعله يتصرف كموجة!

ونتيجة لهذا التصرف المريب من الإلكترون ومن الجسيمات الذرية الأخرى فلقد أنكر عددٌ من هؤلاء وجود واقع موضوعي خارجي مستقل بذاته، فأنت كراصد لظاهرة ما في الطبيعة لا يمكنك رصد أي ظاهرة دون أن تؤثر فيها وفي نتائجها، فأنت جزء من أي تجربة تقوم بها، فأنت لم تعد مشاهدا للمسرحية خارج خشبة المسرح، بل تصبح بطلاً من أبطال المسرحية بمجرد مشاهدتك لها.

ألم أقل لكم،،،انهارت البديهيات!!!

نسيت أن أشير إلى أمر آخر قبل أن أدعك تعيش مع خيالك وتحاول أن تتحقق مما ذكرته وهو أن هذا الجسيم والذي يدعى الإلكترون حجمه يساوي صفرا!!

 

-------------------

مصادر المقالة:

1-  هينرز باجلز رموز الكون ص 92 الطبعة الثانية 1981

2-  السمان أدهم، بالاستعانة بالترجمة العربية لكتاب (طبيعة القوانين الفيزيائية) الطبعة الأولى .

3-  Arthur Beiser, Concept of Modern Physics 5th ed. 1987

4-  Shimony A., The Reality of the Quantum World, Scientific American, 6, May / 1989

 

"عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف إلى نشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة تثير الخيال البشري وتجعله يحلق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها".

 

 

* كلية العلوم بجامعة السلطان قابوس