د. صالح الفهدي
الأحداث التي تعتورنا لا يُمكن أن نتعاطى معها بفكر ساذج لا يستطيع أن يستقرئها، ويتمعَّن في سيرورتها وعواقبها، إننا بهذا نمارس الخبل، ونزهق العمر في عيش لا معنى ولا طعم له. وسائل التواصل الاجتماعي أظهرتْ الكثير من نماذج العطب الفكري، والسخف المعرفي، والسطحية المبتذلة في التعاطي مع الأحداث، والوقائع والقضايا والمواقف. وفي الجانب الاقتصادي، يُنبئ واقع الناس في مجتمعاتنا أنهم لا يدركون المتغيرات الاقتصادية التي تحدث حولهم، والتي تتجه بهم إلى مصائر تضيِّق عليه الوسيلة المعيشية، وتقلص عليهم فرص الرفاه، والسعة، ومع ذلك تجدهم يتشبثون بنمطية العيش الذي ألفوه، والوسائل التي اعتادوا عليها في الإنفاق على الغذاء وهو إنفاق غير محكم، وفي الترفيه وهو ترفيه غير مضبوط، وفي الشراء وهو شراء غير مقنن.
وفي الجانب النفسي، لا تزال أقدامهم ترتجف إن خطرت على العقل مجرد فكرة لاجتراح الفضاء الواسع سعيًا وراء فرص مغايرة، مختلفة؛ لأنَّ الخوف مُستبد بالنفوس، كاتم على أنفاسها من أن تواجه الفشل الذريع، فتقبع في مكانها عاجزةً، تندب حظها العاثر!
والمتغيرات أشبه بالأعاصير المحدقة حولهم؛ فهم في هذا الوضع أشبه بركاب سفينة يمرحون ويبتهجون دون أن يدركوا اسوداد الأفق حولهم وإرهاصات الهياج في الموج، وصفير الرياح الهوجاء القادمة!
وإذا تركنا هذا المشهد الذي قد يَراه البعضُ مُوغلاً في القتامة، فإننا نصدر الدعوة ذاتها -أي التفكير بعمق- في عيش ناعم هانئ رغيد؛ وذلك ما سيتيح لنا أن نتدبر في العبر، ونتمعَّن في تقلبات الزمان التي يصفها أبوالبقاء الرندي بقوله:
"لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ... ولا يدوم على حال لها شان
فما كانت مثل هذه العصارات الفكرية ومثيلاتها، والحكم الأدبية وقرائنها إلا حصيلة دروس تاريخية ليتدبرها الفطناء النبهاء. ونفس الإنسان عصية على التدبر، متمردة على اسكتناه الدروس، ما إن تخضع طائعةً لدرس من دروس الحياة حتى تتغافل عنه سريعاً، وما إنْ تظهر التأثر بحدث مؤلم، حتى سرعان ما تنساه، ولكن ذلك طبع متأصل فيها ما لم يعقلها عقال حكيم، ويطوقها قياد عظيم. وذلك لا يتحقق إلا ببناء الإنسان بالتعليم أو التعلم؛ فالأول يكون عبر مؤسسات تريد حقيقةً أن تبنى إنساناً له عقل وازن، وفكر ثاقب، فترسم له الطريق لذلك البناء عبر منظومة من المعارف والآداب والفنون التي تصقل شخصه، وتحكم صنيعه. أما الثاني، فهو تعلم الإنسان نفسه حين يبلغ به النضج والرشد مبلغاً يكون فيه قادراً على رسم منهجه، ووضع قراره لما يريد أن يكون في مستقبل أيامه.
وهنا.. فإنَّني أذكر حاجتنا إلى تعلم الفلسفة، أو قل مفاتيح تعلمها؛ لأنَّ الفلسفة هي التي تعيننا على استكناه الأشياء، والمواقف، والغور عميقاً في الأحداث، واستقراء سيرورة المتغيرات. الفلسفة هي بوابة العقل للتفكير الحصيف، والتدبير الكيس، بيد أن مجتمعاتنا قد ضربت بالفلسفة عرض الحائط لأنها في منظور كثير من صناع المناهج التعليمية مضيعة للوقت..!! حينما كنت في سن الثانية عشرة تناولت كتاباً من مكتبة المدرسة التي أسستها بالاشتراك مع مدرس اللغة العربية، ما زلت حتى اليوم أجهل الأسباب التي دفعتني لاختيار ذلك الكتاب الفلسفي الذي حمل عنوان: "الحب والحرب والحضارة والموت" لسيجموند فرويد..!! لم يغب عني اسم هذا الكتاب حتى اليوم، هل لأنه تناول أربع ركائز من ركائز الوجود الإنساني، أم لأنه فقط كتاب فلسفي؟! لا أجد الجواب المناسب.
السؤالان اللذان علينا مواجهتهما هما: هل علينا أن نعيش الحياة بسطحية تامة، وندع الأحداث تسوقنا كما اتفق؟ أم أنَّ علينا أنْ نحكم قياد أنفسنا، ونتمعن في طرائق معاشنا، ونراجع أفكارنا، ونتأمل صور سلوكاتنا، وننقد أنفسنا؟
لا يُمكننا الإجابة عن واحد من السؤالين إن لم نخلص أنفسنا من معمعة الفوضى التي ألقينا فيها عقولنا، وأقصد بها زخم التواصل الاجتماعي، وحشود الرسائل، ورنين الهواتف، وهيجان الآراء المتصارعة في المنصات الافتراضية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى الخواء العقلي، والسخف الفكري، والجري وراء الملهيات، والنزوع إلى الملذات!
إنَّنا إنْ لم نمنح الحياة حقها من استكناه المعاني، فلن نسمو لنشعر بها، ولن نعرف معنى أعظم ما فيها من هبات كالحب، والخير، والحق، والجمال، والعدل، والسعادة.. وسنظل نعيش بشراً هامشيين لا يصنعون إنجازاً، ولا يتركون أثراً..! ولأجل أن نكون كائنات مفكرة علينا أن نعي أسباب التفكير، ومعناه، وطرقه، يقول هنري ثورو: "خطوة واحدة لن تعبد طريقا على الأرض، كما أن فكرة واحدة لن تغير شيئاً في العقل، تتابُع الخطوات ستعبد الطريق، كما أن الكثير من التفكير سيصنع المستحيل الذي سيغير حياتنا".