هل نعاني من أزمة قيادات؟

د. عبدالله باحجاج

من الأهمية الظرفية الراهنة بثنائيتها "الزمنية والسياسية" أن نتوقف عند تساؤل عنوان المقال، وهو امتداد لرأي توافقت فيه مع رأي الزميل أحمد الهوتي في مقاله الأخير المُعنون "أزمة وطن.. أزمة قيادات لا إمكانيات مالية"، وقد عبَّرت عنه في إحدى تغريداتي في مختلف حساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي، وبنيته من مُنطلق ما لدينا من موارد وثروات هائلة غير النفطية والغازية، شبه جاهزة، ولم نر أي مُؤشرات على جهد فردي أو جماعي آني باتجاه استغلالها رغم أنَّ أزمتي كورونا وعدم استقرار أسعار النَّفط تعجلان بانطلاقتها دون الانتظار لموعد استحقاقاتها الزمنية المُبرمجة قبل أزمة كورونا.

فهاتان الأزمتان من النوع الذي يُؤثر على الأوضاع البنيوية للدولة عامة والمجتمع خاصة، وليستا من نوع الأزمات العابرة حتى ننتظر لكي تعبران مناطق تأثيرنا، ومن ثم نبدأ سيرنا الاعتيادي، من هنا أبدينا موقفنا سالف الذكر، وعندما أمعنَّا التأمل فيه-أي الموقف- اكتشفنا أهمية الكتابة فيه بعد ما ظهرت لنا رؤى أخرى تُدلل على طرحه، لعلنا من خلاله نحرك القناعات السياسية به، ونُبصر بمسير تصحيحي عاجل.

وخرجنا من إعادة التفكير فيه بأنَّ للقضية ثنائية متراكبة، فهي من جهة أزمة قيادات، بدليل عدم التفكير في الواقع وتحدياته، والعمل على استغلال الفرص المتاحة الآن التي قد لا تتوفر لاحقاً، وتقديم أجندة وتأخير أخرى حسب أولويات منطق الأزمات، والاكتفاء بمُعالجات تقليدية وسطحية، تعقد المشهد الاجتماعي وتفتح احتقاناته من أوسع الأبواب، ومن جهة ثانية، فحتى لو توفر هذا النوع من القيادات، هل المنظومة المؤسسية التي تشكل مرجعية لها، ستفتح لها الأبواب للانطلاقة أم ستربطها بالآجال الزمنية المُقررة أصلا قبل اندلاع الأزمتين؟

وهنا تساؤلان آخران نطرحهما للكشف عن الواقع بكل تفاصيله، وهما: هل بمقدرة الفرد أن يخترق المنظومة ويحقق الإنجاز؟ وهل هناك سلطة عميقة مُؤثرة على السلطة الجديدة؟ والتساؤلان يطرحان فرضيات عقلانية، لأنه لو وجدت هاتان السلطتان، فليس للقيادات الجديدة من جدوى في ظل وجود سلطة عميقة.. لكن، أين هي هذه القيادات؟ ولماذا لم نرَ حتى في إطار صلاحياتها الوزارية، مُؤشرات تعكس الفارق بينهما وبين من سبقوها؟ بعضها لا يزال في طور ما يمكن تسميته بالإحلال، أي إحلال نخب وزارية جديدة محل قديمة، والأخرى، لما أرادت مواجهة تحديات ضاغطة كوزارة العمل ارتدت على المكتسبات، وأحدثت حالة استياء شعبي حتى الآن.

وإذا سلمنا بوجود السلطتين حتى لو افتراضًا، رغم ما ترجحه السياقات، فإنهما ينتظران الأجل المقرر لتطبيق الرؤية في الأول من يناير المُقبل، رغم أنَّ الأزمتين (كورونا والنفط) تعجلان بالتطبيق، وتستدعيان إعادة النظر في الأولويات وأطرها الزمنية، فالآجال الزمنية للرؤية قد وضعت للسير الطبيعي والمتدرج، وهي الآن تواجه مجموعة تحديات بسبب تداعيات الأزمتين مما يستوجب منذ فترة زمنية المراجعة الشاملة، وأولها المحركات الزمنية لتنفيذ الخطط والاستراتيجيات.

ووفق ما أفاد به بعض أعضاء اللجان الذين تمَّ اختيارهم لمهمة ضمان نجاح التحولات الجديدة، أن الخطة الخمسية العاشرة المُقبلة التي ستبدأ العام 2021 مع بداية انطلاقة رؤية "عُمان 2040"، ستخصص لاستكمال إعادة هيكلة وتنظيم الجهاز الإداري للدولة، وهنا الإشكالية الكبرى؛ فسواء كنَّا في معمعة أزمات قاهرة أو في السير الاعتيادي، فخمس سنوات مدة زمنية طويلة جدًا، ولا تُعبر عن إرادة الانتقال والتحول ببلادنا إلى شواطئ الأمان من أزمات قد أصبح عصرنا يصطبغ بها، وتتراكم فيه الواحدة تلو الأخرى.

وحتى لو لم نكن في منطق الأزمات المتتالية والمتراكمة، فإنَّ عنصر الزمن ينبغي أن يوظف بصورة أكثر تفهماً وقرباً لنهضة تتجدد بأفكار ومفاهيم جديدة، ولديها رؤية واستراتيجية قابلة للتحقيق في بلد تتوافر فيه كل المقومات المادية للنجاح، منها ما هو فوري، فكيف إذا ما كان هذا البلد يُعاني في إطار سياقاته الإقليمية والعالمية من مجموعة تحديات وجودية على خلفية انخفاض الأسعار النفطية وجائحة كورونا؟ وهناك جيل كامل ينتظر حقه في العمل، وأغلبية المجتمع تمتص مداخله المحدودة.

فكل النخب الجديدة والعميقة ينبغي أن تعمل وفق منطق الأزمات التي تؤثر على الدولة وخاصة المجتمع، هذا هو الذي ينبغي أن يحكم على تفكيرها ومنهجية عملها، ومن هذا المنطلق، كان يتحتم تشكيل لجنة عُليا تكون مهمتها إصلاح هيكلة وتنظيم الجهاز الإداري للدولة بعد عمليات الدمج والإلغاء، يدخل فيها حوكمة ما تم ويتم اتخاذه من إصلاحات وتحولات، ويتم منحها أجلا زمنيا لا يتعدى السنة كأقصى مدى زمني، على أن تكون هذه اللجنة تابعة للمؤسسة السلطانية، وعملها متواصل غير منقطع حتى لو أنجزت عملها، لدواعي مُتابعة ومراقبة الأداء وحاكمية منطق الأزمات فيه، وهذه المهمة، كان يفترض أن يقوم بها مجلس الوزراء وبالذات أمانته العامة، لكن بدا لنا من خلال المشهد أنها تحتاج بدروها إلى إصلاحات هيكلية وعددية وتحديد فلسفة جديدة لعملها.

فهي- أي الأمانة العامة- لم يعد دورها حلقة وصل بين مجلس الوزراء والوزراء والوحدات الحكومية والعمومية الأخرى، وإنما قيادة إصلاحها وضمانة نجاحها، ونجاحها يعني نجاح "رؤية 2040"، ونجاحها في تحويل تعاملاتها مع الوزراء إلكترونيًا عبر عدة وسائل حديثة من بينها الحقيبة الوزارية.. إلخ. هذا مدخل نجاح تحولنا للحكومة الذكية رغم أننا لم نقطع حتى الآن الخطوات الأساسية للحكومة الإلكترونية، لكن تعاملنا مع الإصلاحات بمنطق تداعيات الأزمات المستدامة، سيعجل من خطوات التطوير، وسيختزل زمنه في أقل السنوات الممكنة.

ونؤكد مجددًا على أنَّ الكثير من المقومات الاقتصادية في بلادنا لا تحتاج إلى الإغراق الزمني، فتحويل ممراتنا المائية الواقعة على البحار المفتوحة إلى مصادر دخل لا يحتاج لخطة عشرية أو خمسية، وإنما يحتاج للعمل الآني،  ووقف تصدير المواد الخام إلى الخارج، وصناعة بعضها محلياً، لا تحتاج كذلك لخطط طويلة ومتوسطة الأجل، وإنما فتح حوارات من الشركات التي تصدر جبالنا للخارج بسعر التراب.

وماذا ننتظر من سنوات، حتى نقنع تجارنا بعودة أموالهم من الخارج للاستثمار داخل وطنهم، وبعضهم الآن رجعوا للسلطة؟ والوطن مؤسس ثرواتهم ومكونها ومسمنها حتى تحول أصحابها إلى منافسة قمم الثراء عالمياً، فبلادنا الآن في أمس الحاجة إلى الاستثمارات عوضا عن فرض الضرائب وتقليل النفقات التي مخاطرها أكبر من فوائدها، وماذا ننتظر حتى نقنع المستثمرين الأجانب بالتوجه إلى بلادنا، ولدينا علاقات ثقة مع الدول وأغناها، لهم بعض المطالب فلنسارع إلى تلبيتها؟ وكل عوامل الجذب والإغراء بما فيها الأمان الجيواستراتيجي والموقع الجيواستراتيجي والاستقرار السياسي والمكون الديموغرافي المتصالح مع تعدده، والمتعايش مع تنوعه الفكري، والمسالم مع المختلف معه.. تجذب الاستثمارات إلى بلادنا عاجلا وليس آجلا؟

كم تريد حكومتنا من وقت حتى تقيم شركات زراعية وسمكية وتعدينية.. لاستغلال هذه الثروات  في ضوء ما يذهب إليه الخبراء حديثاً من أن دخول الحكومة كمستثمر يترتب عليه دخول 10 مستثمرين من القطاع الخاص؟ ومقومات نجاح مثل تلكم الشركات متوفرة، ويمكن عليها إقامة مصانع، ويمكن تصدير منتجاتها عبر موانئنا المفتوحة لدول شقيقة وصديقة بسهولة خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، وتظهر لنا هنا على الخصوص الكويت وقطر كأكبر المستهلكين والمستثمرين، إذ إنهم يتطلعون لحجم التغيير لجذب الاستثمارات، ووجود سلطات حكومية مسهلة للاستثمارات وليس مُعرقلة. وقد اطلعنا على بعض تفاصيل تجربة الأشقاء القطريين في الاستثمار في بلادنا، ووجدنا أنَّه كانت هناك أسباب موضوعية تجعلهم يعزفون عن بلادنا، فلهم أكثر من عام يحاولون إقامة ثلاثة مصانع كبيرة في ظفار لقربها من السوق الأفريقية، كانت تخذلهم السلط القديمة، وبعضها لا يزال في مواقع أخرى بعد تحريكهم في التعديل الوزاري الجديد.

لا يُمكن إحداث نقلة نوعية من حيث الكم والمضامين، ما لم يتم أولاً، إصلاح منظومة الجهاز الحكومي بأكمله، من حيث الهيكلة والفلسفة، وثانياً، حل إشكالية الصراع بين السلطتين العميقة والجديدة، بينما لو تمَّ تحديث السلطة كاملة، عندها سيكون الكل مطالب بالجديد، بل وبماهيات محددة في الإنجاز، فكيف نطالب بالجديد أو التفكير بمنطق الأزمات.. وهناك سلطة عميقة لها عقود في الإدارة؟ 

وثالثاً، من الأهمية تفعيل الحوكمة فوراً، وإسنادها بمراقب سياسي لكي يضبط إيقاعات المسير، فلو كان هذا المراقب موجودًا، فلن يرى في المصلحة العُليا بكل أبعادها الزمنية والجيوسياسية، الاستمرارية في سياسات تفقير أغلبية المجتمع، وترسيخه، فذلك يعني ولادة الطبقية في بلادنا، ونشوء صراعات رأسية وليست أفقية، فالأولى ستصبح سياسية، والثانية حقوقية، والفارق بينهما كبير، فلو كان موجودا سيرى الحل في الاقتصاد الإنتاجي وليس اقتصاد الضرائب والرسوم، وتفريغ الدولة من محتواها الديموغرافي، وسيرى أنَّه بإمكان بلادنا تحقيق هذا النوع من الاقتصاد بسهولة مُمكنة وفق ما أوضحناه سابقاً.. فهل من استدراك عاجل؟!