الشيعة والقضية الفلسطينية

عبد النبي الشعلة

 

ما حدا بي لكتابة هذا المقال هو أنني تلقيت عددًا من الاتصالات تسألني بالتحديد: لماذا يبدو بعض الشيعة في البحرين أكثر حماساً وحدة واندفاعًا من غيرهم في مُعارضة قيام دولة الإمارات العربية المُتحدة ومملكة البحرين بتطبيع علاقاتهما مع دولة إسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها؟ ومنذ متى كان للشيعة بشكل عام أي اهتمام أو تفاعل مع القضية الفلسطينية؟

إنني لا أستطيع إدعاء المقدرة على الإجابة الوافية على هذين السؤالين الهامين في هذه العجالة والمساحة الضيقة، لكنني أود أن أبدأ بالتأكيد على أنَّ الشيعة العرب، شأنهم في ذلك شأن بقية العرب المسلمين، ملتزمون ويُؤمنون في عميق ضمائرهم بعدالة هذه القضية منذ بدايتها، ولا يحتاجون لمن يُعطيهم دروسا في فضائل قيم الحرية والعدالة المُرتبطة بها، وهم يرفضون محاولات استنهاض الشعور بالمظلومية الدفين في وجدان الكثير منهم، وتحريكه واستغلاله من قبل المُتاجرين بقضايا ومصائر الشعوب لخدمة أهدافهم وأجنداتهم ومصالحهم الخاصة.

وفي محاولة الإجابة سنبدأ بتوضيح بعض الجوانب  والخلفيات التي قد تُساعدنا؛ منها أنَّ الإسماعيليين المسلمين بمختلف تفرعاتهم مثل البهرة والخوجة وإسماعيلية نجران وغيرهم، يعتبرون من الطوائف الشيعية، هؤلاء لا يهتمون ولا يعرفون أو يريدون أن يعرفوا أي شيء عن القضية الفلسطينية، ولا وجود لهذه القضية ضمن مُفرداتهم أو أبجدياتهم، وإن طائفتي البهرة والخوجة بشكل خاص منشغلتان دائمًا وحتى النخاع بقضايا العلم والمال والتجارة، ولاتلتفتان إلى القضايا السياسية، وهما لا تنكران ذلك بل تفاخران به، لذا فإننا سنحصر مُلاحظاتنا في الشيعة الإثناعشرية أو الإمامية، وهم يشكلون الغالبية العظمى من الشيعة، وتتراوح تقديرات عددهم من 150 إلى 300 مليون، ومن بينهم شيعة البحرين والخليج العربي.

ثمَّة حقائق ووقائع مفصلية يعرفها الجميع نحتاج أن نمر بها بسرعة خاطفة لتقربنا من التوصل إلى الأجوبة؛ فصفحات التاريخ التي لا غبار عليها ولا خلاف حولها تؤكد أنَّ القدس قد استسلمت لجيش المُسلمين الذي كان يُحاصرها بقيادة الصحابي أبوعبيدة بن الجراح في عهد الخليفة عُمر بن الخطاب، الذي حرص على التوجه شخصيًا إلى مدينة "إيليا" أو القدس في العام 16هـ لاستلام مفاتيحها، وبذلك استكمل فتح بلاد الشام التي تضم الأراضي الفلسطينية، وصارت جزءًا من دولة الخلافة الراشدة، وقد عُين مُعاوية بن أبي سفيان والياً على الشام بأمر من الخليفة عُمر بن الخطاب في العام 21هـ.، وكانت بلاد فارس قد فتحت أيضًا في عهد الخليفة عُمر.

وعندما تولى الإمام علي بن أبي طالب الخلافة في عام 35هـ امتنع مُعاوية وأهل الشام عن مُبايعته، فنشب وتصاعد الخلاف بينهما وبلغ ذروته في حرب صفين، وقد "ظلت فلسطين مع بقية أجناد الشام وفية لمُعاوية، وانضمت إلى جيشه المُقاتل في صفين قبائل فلسطين كالأزد وكنانة وجذام ولخم وخثعم"، وقتل في تلك المعركة 45 ألفًا من أهل الشام.

ومن أرض الشام أصدر الخليفة الأموي الثاني يزيد بن مُعاوية أوامره بقتل الإمام الحسين إذا رفض مُبايعته، وإلى أرض الشام، بعد مقتل الحسين، سيقت سيدات البيت النبوي سبايا ليرين أهل الشام شامتين يستقبلونهن بالأهازيج والطبول والدفوف كما ورد في المرويات الشيعية، وقد أصبح مقتل الإمام الحسين في كربلاء هو الحدث التاريخي الذي ساهم في بناء الوعي الجماعي الشيعي، فهل بقيت تلك الوقائع قابعة في المهج الشيعية لتلقي بظلالها على مواقفهم من القضية الفلسطينية عندما برزت إلى السطح قبيل منتصف القرن الماضي؟

إنَّ الوجدان الشيعي ظلَّ، من دون شك، مشغولًا ومسكونًا بقضية الإمام الحسين ومظلومية أهل البيت، التي صارت قضيتهم المركزية الكبرى، وعند قيام دولة إسرائيل في عام 1948 كان الشيعة العرب يعانون من الإحساس بالتهميش والإقصاء عندما كانوا يعيشون تحت الاحتلال البريطاني؛ كما كان حال شيعة البحرين، أو تحت الحكم العثماني مثل شيعة العراق؛ الذين تعرضوا أيضًا للمزيد من الإقصاء نتيجة لدورهم في ثورة 1920 ضد البريطانيين الذين احتلوا العراق بعد انهيار الإمبراطورية العُثمانية.

ونتيجة لإيمان الشيعة عمومًا بنظرية الانتظار فقد صار الفكر السياسي للشيعة العرب حتى منتصف القرن الماضي واقعاً تحت تأثير الفقه التقليدي الشيعي الذي يعوقهم عن الانخراط في النشاط السياسي أو مُمارسته إلا بعد ظهور الإمام المهدي المنتظر، ما أدى إلى تقوقعهم وانكفائهم، ولعل ذلك يفسر عدم مشاركة شيعة البحرين بشكل ملحوظ في المظاهرات التي قامت احتجاجاً على قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود في العام 1947 والتي تم خلالها الاعتداء على المعبد اليهودي وعلى ممتلكات عدد من اليهود المقيمين في البحرين ونهبها، وعلى الرغم من ذلك فقد كان للشيعة العرب مواقفهم المؤيدة والداعمة للقضية الفلسطينية من خلال مرجعيتهم العربية في النجف الأشرف بالعراق كما سنرى لاحقًا.

إنَّ إيران هي الدولة التي يقطنها أكبر عدد من الشيعة في العالم، وتحتضن عددًا من أكبر الحوزات والمراجع العلمية والفقهية الشيعية، وبمدينة قم الإيرانية تقع المرجعية الشيعية العُليا الثانية بعد العراق، التي كانت حتى في العهد البهلوي وأيام الشاه محمد رضا تتمتع بحضور وتأثير محسوسين على مجريات الأحداث في الساحة الإيرانية.

وقد كانت إيران ثاني دولة بعد الولايات المُتحدة تعترف بإسرائيل "بحكم الأمر الواقع" فور قيامها في العام 1948، ثم توج ذلك باعتراف كامل بها وتبادل دبلوماسي معها في عام 1950.

ورغم أنَّ نفرا من الشيوعيين الإيرانيين كانوا قد عبروا باستحياء شديد عن استيائهم لقرار الحكومة، وأن الزعيم الإيراني الليبرالي محمد مصدق قام بتخفيض مستوى العلاقات السياسية مع إسرائيل عندما أصبح رئيساً للوزراء من 1951 إلى 1953، والتي عادت إلى نصابها بعد الإطاحة به؛ إلا أنني لم أتمكن، رغم محاولاتي، من الحصول على أي دليل يؤكد أو حتى يشير إلى قيام المرجعية العليا في إيران أو أي من حوزاتها أو مراجعها الكبار، أو أي من قطاعات المجتمع الإيراني، بالاعتراض أو الاحتجاج على قرار الشاه بالاعتراف بإسرائيل، أو أن القضية الفلسطينية كانت في ذلك الوقت حاضرة في وجدان الشعب الإيراني بشكل عام حتى ظهور الإمام الخميني، وذلك على خلاف المواقف والجهود التي بذلتها المرجعية العربية بالنجف وعدد من كبار مراجع العراق مثل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي سافر في عام 1931 إلى فلسطين وحضر مؤتمرا إسلاميًا لنصرة الشعب الفلسطيني والدفاع عنه في القدس، وألقى خطابًا ارتجالياً في المؤتمر دام ساعتين ألهب شعور المشاركين، وكان له العديد من الخطابات والبيانات التي تدعم وتنصر الشعب الفلسطيني، جمعها في كتاب أسماه "فلسطين قضية المسلمين الكبرى"، وأيضاً كانت فلسطين حاضرة في خطب ومكاتبات المراجع الكبار في العراق مثل السيد محسن الحكيم والسيد محمد باقر الصدر والسيد أبي القاسم الخوئي وغيرهم.

ولم يكن خافياً على أحد أن نجاح الثورة في إيران في العام 1979، كان قد أطلق عنان قادتها لتحقيق طموحاتهم المعلنة في بسط نفوذهم وسيطرتهم على دول المنطقة وتزعم العالم الإسلامي بتفعيل استراتيجية أو سياسة تصدير الثورة، وما يتطلبه ذلك من تعبئة وجدانية، وتوظيف سياسي للدين، واستغلال للقضايا المصيرية للشعوب، فكانت القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل أفضل قاطرة أو معبر لتسهيل عملية التصدير وتسويقها في العالم العربي، مستهدفين الشيعة العرب في أوطانهم كجسور وممرات للعبور، وقد وقع بعضهم للأسف الشديد في الفخ، وابتلع الطعم، ووضعوا أنفسهم، ربما بحسن نية، في واجهة المعارضة لجهود التسوية السلمية للقضية الفلسطينية.

نرجو من الله أن يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل.