التصالح مع الذات

مدرين المكتومية

هل سألت نفسك يومًا إذا كنت متصالحاً مع ذاتك أم لا؟ وهل عانيت في حياتك من التَّعامل مع أشخاص غير مُتصالحين مع ذواتهم؟

سؤالان فلسفيان بكل تأكيد، لكني أرى أنَّه من الأهمية بمكان أن يطرحهما كل فرد على نفسه، بل أن يطرحهما المجتمع بأسره، فكم من أناس التقينا بهم وتلمسنا فيهم تصالحهم مع ذواتهم، ثمَّ رددنا في داخلنا "لماذا لا يكون الجميع مثلهم؟!". حقيقة الأمر أنَّه- وللأسف- تلك هي الطبيعة البشرية، أن من النَّادر أن تلتقي بشخص مُتصالح مع نفسه، يُدرك مميزات ذاته ومحاسنها، لكنه أيضاً يتفهَّم جيداً عيوبه وأخطاءه، فتجده يتعامل مع الآخرين وفق مبدأ المساواة، فلا يتعالى على أحد، ولا يُحقِّر من شأن أحد، بل إنه لا يمجد نفسه أو يعظم قدرها، فهو "إنسان سَوِيّ"، يعلم جيدًا أنَّ النفس البشرية أنواع، وهذه الأنواع لها صفات مُتغيرة ومُغايرة، والمحظوظ في هذا العالم إما أن يكون متصالحاً مع نفسه، أو يلتقي بأشخاص كثر متصالحين مع أنفسهم! وطبعاً هذا أمر صعب التحقق وبعيد المنال لأغلبنا، ومن ثمَّ فإنَّ الأمل معقود على النفس، وعلى ذات الإنسان، أي: علينا أن نتصالح مع أنفسنا أولاً حتى نلتقي بمن هم متصالحين مع أنفسهم.

عندما نتحدث عن الشخص المُتصالح مع ذاته، نتحدث عن إنسان يُؤمن بكينونته، ويعتقد في قدراته، دون مبالغة أو تهوين، كما إن طريقة تفكيره مُستقيمة، لا إعوجاج فيها، ويعلم حدود إمكانياته ويحفظها عن ظهر قلب، فتجده لا يُجادل ولا يفتعل المُشكلات؛ لأنه مدرك لما يملكه وما ينقصه، وهو راضٍ ومرضي عنه من قبل المُحيطين به غالبًا، كما إنه قادر على استيعاب متناقضات الحياة ومُتغيراتها.

المتصالحون مع ذواتهم لا يأذون النَّاس بكلمة جارحة، أو لفظ مسيء، ولا يتدخلون في حياة الآخرين، وإن تدخلوا بناءً على دعوة من هذا الآخر، يكون تدخلهم لطيفاً، خفيفاً، قليل الدسم!! نعم قليل الدسم؛ فالأمر مرتبط بـ"دسامة" الشخصية، ومدى قدرة الآخرين على "هضمه"، وتقبله والتعامل معه بأريحية كبيرة.

وعندما يكون الإنسان متصالحاً مع ذاته، يكون أكثر قُدرة على استيعاب النَّاس من حوله، وفهم طريقة تفكيرهم، والتأقلم مع ردود أفعالهم، ولذا تجده أكثر حذرًا في التعاطي مع شؤون الآخرين، وأكثر قدرة على تقييم الأمور وتصنيفها، فالتصالح مع الذات يجعل الإنسان يتخلى عن الهفوات أو الزلّات التي يرتكبها الآخرون، كما لا يلتفت إلى ما لا يعنيه. وحين يصل الإنسان لهذه المرحلة من السُّمو الروحي والنفسي، يضع الأمور في زاوية المسلمات، ومن ثم فإنَّ كل شيء متروك لمن يهمه الأمر، ومتروك للقدر خيره وشره.

غير أنَّ ما يهمني أن أوضحه في هذه السطور، أنَّه يجب على كل إنسان أن يرتقي بنفسه نحو العلا، فلا يكترث للآخرين عندما يتسببون في أضرار له، ولا يسمح بتدخل أحد في شؤون حياته. فالمتصالح مع ذاته شخص يجد في الاستقلالية نفسه، ويعلم أنَّ الحياة لا تقف عند أحد، ولا أمام مُنعطف واحد، كما يُؤمن إيماناً راسخاً بأنَّ الحياة لا تضاق إلا لأنَّ ثمَّة انفراجة تلوح في الأفق، لذلك فهو لا يحزن على أمر لم يحدث، ولا يُطيل البكاء على الأطلال، ولا يترك لحظات السعادة تمر دون أن يعيشها.. إنِّه شخص يعيش الحياة داخل حدوده هو، لا حدود الآخرين، هو من يختار ما يُناسبه ويبتعد عن كل ما من شأنه أن يفسد له حياته.

فهل نجد السعادة والراحة وطمأنينة الخاطر في التصالح مع ذواتنا؟ نعم بلا شك، ولذا أجد نفسي مطمئنة وسعيدة كلما مارست التصالح مع ذاتي، ودعوت الآخرين المُحيطين بي إلى التصالح مع ذواتهم.. ولذا أنصح كل من يقرأ هذه الكلمات أن يتحلى بالشجاعة ويتصالح مع ذاته، ويُدرك حقيقة نفسه، فالإدراك يعني المعرفة، والمعرفة طريقنا إلى النجاة من كل خطر يُحيط بنا، وما أشد على المرء فتكاً من خطر الذات والنفس.