عبيدلي العبيدلي
ذلك النمو الذي شهدته ظاهرة الألعاب على الإنترنت والرياضات الإلكترونية المصاحبة لها، والازدهار المرافق له الذي عرفته صناعاتها، والتوسع متعدد الأوجه الذي نعمت به أسواقها على الصعيد العالمي، لم ينعكس بالنسبة ذاتها على الواقع العربي. فعلى المستوى العربي، لا يزال الانتشار في صفوف من يمارسها من العرب ضعيفا، إن لم يكن معدوما في بعض البلدان العربية، وعدد الأبطال الذين فازوا بجوائزها في المسابقات الدولية يكاد يعد على أصابع اليد الواحدة، والألعاب العربية ونظيراتها من المسابقات تكاد لا تذكر. اللهم إلا أدرجنا ضمنها تلك الدولية التي تم تعريبها، وبشكل مشوه. وليس هناك مجال للحديث عن صناعة المنصات، أو الأجهزة والمعدات التي تحتاجها مثل هذه الصناعة؛ إذ تصعب الإشارة له، مقارنة مع ما هو متوفر لدى أمم أخرى سبقتنا إلى هذا الميدان.
هذه الصورة التي قد تبدو قاتمة في نظر البعض، قد تتحول إلى شيء من التحدي المغري، والمشجع في آن في نظر البعض الآخر. لكن كي يلج العرب هذا المجال الحي والمتجدد، والقابل للنمو والانتشار، ومن أوسع بواباته، ينبغي لهم مراعاة القضايا التالية:
1- ضمان التخصص بعد الاختيار الدقيق؛ فمن الخطأ ولوج هذه الصناعة بأبعادها المختلفة من منصات، ومعدات، وبرمجيات، وألعاب، وأخيرا، وليس آخرا لاعبين بشكل عشوائي تسيطر عليه نزعة حب التفوق في كل شيء. فعند الاختيار، ولكي يكون الاختيار صحيحا، وقابلا للصمود في وجه البلدان والشركات المنافسة الأخرى، ينبغي لمن سوف يتخذه مراعاة متطلبات الفرع الذي سيقع عليه الاختيار، والتحقق من ملاءمته للأوضاع العربية القائمة والقادمة. ومتى ما وقع الاختيار، لا بد أن يتبعه التخصص الذي بوسعه تحقيق التفوق المنشود. فلكل فرع من فروع تلك الصناعة طريقه الطويل، وعمقه العمودي الذي يبيح لمن سيختاره، متى ما أحسن التقيد بمقومات نجاحه، أن يبني صناعة متينة، قادرة على ان تكون مجزية تجاريا، وقوية في وجه منافسيها ترويجيا.
2- التقيد بقيم التهيؤ المسبق والاستعداد المبادر. والمقصود هنا أخذ كل الاحتياطات المطلوبة لكل إفرازات ولوج هذا القطاع الصناعي. فهناك الأمراض التي سوف يستحدثها انتشار هذه الألعاب أو الرياضات، وفي مقدمتها الإدمان الشديد الذي يبلغ حدة المرض، وما يرافقه من أمراض أخرى مثل تلك التي أشرنا لها في الحلقات الأولى. وعلى نحو مواز، فمن غير المستبعد أن تولد هذه الصناعة ما يتنافى وقيمنا الاجتماعية والعقيدية مثل القمار، الذي لا يكون محدودا في قيمه المالية، ولا محصورا في فئة صغيرة من المواطنين. وعليه فمن الخطأ الجسيم الانتظار حتى تتفشى ظاهرة القمار، حتى في أبسط صوره، كي نباشر في التصدي لها من أجل القضاء عليها. وهناك تجارب ناجحة، وأخرى فاشلة لجأت لها أمم أخرى سبقتنا في ولوج هذه الصناعة، بوسعنا الاستفادة منها أن شئنا ذلك.
3- بناء بيئة تملك مقومات الاستعداد لتفريخ الموارد البشرية المؤهلة لبناء صناعة حية ومتقدمة مقارنة بالدول الأخرى. مثل هذه الموارد البشرية ينبغي اختيارها في مرحلة مبكرة من أعمار أصحابها. فالنجاح هنا يتناسب عكسيا مع عدد سنوات العمر. ومن ثم، فكلما كان الاختيار مبكرا، كانت النتائج المتوقعة أفضل. وتفريخ المواهب البشرية لا يتم عفويا، بل ينبغي أن ترافقه برامج تأهيل، وتعليم مكثفة ومتواصلة لا تعرف التوقف، ولا يتسرب في نفوس أصحابها الكلل أو الرغبة في منتصف طريق الابتكار والابداع. والوصول للنجاح هنا رهن تصميم برامج تعليمية وتدريبية غير تقليدية، وغير مستنسخة بشكل عشوائي من تجارب سابقة اختارتها أمم أخرى سبقت العرب في ولوج هذه الصناعة. ومن بين العناصر التي ينبغي أن تؤخذ في عين الاعتبار هنا: الحواجز التي ستفرزها الخلفيات الثقافية، والهياكل اللغوية. ومع الاثنتين: السلوكيات الفردية التي ستفرض نفسها على الموارد البشرية التي وقع عليها الاختيار، وخاصة في المراحل المبكرة من حياة إنشاء مثل هذه الصناعة.
5- بناء التحالفات الصناعية العادلة بين أصحابها من الشركات، وليس المقصود هنا ذلك النمط الهيكلي الذي رافق نشؤ وازدهار ما أطلق عليه الشركات العابرة للحدود او القارات التي رافقت حركة الاستعمار في مراحلها المتقدمة، ولا حتى الكارتيلات الاحتكارية التي تمسك بين يديها السيطرة على الأسواق بفضل الدعم السياسي والتجاري الذي تنعم به من حكومتها المستعمرة (بكسر الميم). فالتحالفات المطلوبة هنا، والقادرة على الصمود والنمو بعد تحقيق النجاحات، عند نيل التفوق المطلوب، هي تلك التحالفات التي تنطلق من التكامل، وتقوم على التخصص. حيث يتطلب النجاح الكلي لصناعة الألعاب على الإنترنت والرياضات الإلكترونية، ان تتوزع مكونات كل منها على أكثر من بلد، وتقوم بكل واحد من تلك المكونات أكثر من شركة، حتى في البلد الواحد ذاته. مثل هذا التوجه سيخلق بيئة تنافسية عادلة، وسيوفر منتجات صناعية راقية قادرة على إرضاء المستفيد، وتتوفر فيها عناصر التنافسية المطلوبة.
6- الحرص على التقيد بأرقى مقاييس الجودة في المنتجات، او أعلى درجة المهارات في صفوف المتسابقين. والمقصود هنا ان تفرض مقاييس جودة صارمة في المنتجات، ووضع برامج تأهيل قاسية لتأهيل المتسابقين. فأي مخالفة لذلك من شأنها كسر دورة الإنتاج في منطقة معينة من مناطق ضعفها. وهذا من شانه تدمير أي فرع من فروع الصناعة؛ الأمر الذي من شأنه تجريد تلك الصناعة من عناصر التنافسية، ومقومات النجاح اللذين لا يمكنها الاستغناء عن أي منهما. هذا بدوره يفترض وضع برامج صارمة لمراقبة الجودة، بما في ذلك خطط التسويق، وبرامج تثبيت العلامات التجارية (Branding) في الأسواق المقصودة.
قد يبدو لدى البعض أن تشييد صناعة ألعاب عربية على الإنترنت والرياضات الإلكترونية المرافقة لها ناجحة ومجزية معقدة بعض الشيء. وقد يراها البعض مهمة شبه -إن لم تكن- مستحيلة. لكن دراسة تجارب أمم سبقت العرب لتلك الصناعة فيها الكثير من عناصر التشجيع والتحفيز. والحديث هنا لا يذهب إلى تجارب ناجحة خاضتها شركات دول عظمى مثل الولايات المتحدة، ولا متقدمة مثل الصين، بل تتحدث عن دول صغيرة مثل سنغافورة، ونامية مثل فيتنام. كل ما في الأمر لا يتجاوز توافر التصميم، والتقيد بالقيم، والتحلي بالثقة. وأخيرا وليس آخرا تحاشي كل ما من شأنه حرف المسيرة عن طريقها الصحيح الذي لا مجال فيه للتلاعب، بكل ما تحمله كلمة تلاعب من تبعات، وما تخفيه من مطبات.