في الذكرى الخمسين لوفاته.. رحم الله جمال عبدالناصر

عبدالنبي الشعلة

يوم غد تحل الذكرى الخمسون لوفاة الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر رحمه الله. في ذلك اليوم قبل نصف قرن، بكينا، وشاركنا أشقاءنا المصريين البكاء بكل حرقة وحزن وألم، وبكى معنا الملايين من الشعوب العربية لفقدان من صار بطلًا ومعلما وملهمًا لنا جميعًا.

نعم بكينا بكل لوعة وأسى، فقد أحببنا عبدالناصر حبًا جارفًا، جعلنا لا نرى فيه وفيما كان يقول ويفعل إلا كل خير وحُسن وجمال، أحببناه وانبهرنا به بشكل أعمى أبصارنا وبصائرنا، فصرنا لا نحس بالقصور أو التقصير منه، ولا نرى الأخطاء والسلبيات التي كانت تحصل، وإن رأيناها كذبنا أعيننا أو أغمضناها.

لقد كنا مشدودين ومشدوهين بقوة، وبملء إرادتنا، بشخصية عبدالناصر الجذابة، وبكريزميته الساحرة، وقامته وإطلالته المهيبة، وطلاقة لسانه، وتمكنه من فن مخاطبة الجماهير بأسلوب أخاذ مثير؛ بحيث تتحول الهزيمة أمامنا إلى نصر والتراجع إلى تقدم والخسارة إلى ربح، وتعلقنا به لقدرته الخارقة على تلمس وتحسس آلامنا، والنفاذ والتوغل في عميق وجداننا، وتحريك مشاعرنا وعواطفنا، واستنهاض آمالنا وأحلامنا، فقد جاء عبدالناصر والشعوب العربية تمر بحالة من التعطش الشديد إلى الإحساس بالانتماء الوطني والقومي، وبمنعطف تاريخي ومصيري دقيق، فكان قدر جيلنا أن نعاصر ونتفاعل مع التجربة الناصرية.

سحرنا- رحمه الله- وأسرنا، فصفقنا له، وصدقنا وكنا نريد أن نصدق، بأن البداية كانت ثورة، ولم يكن انقلابًا عسكريًا ما حدث في مصر في 23 يوليو 1952، ثم اقتنعنا، وكنا نريد أن نقتنع، بأن الثورة ومصلحة الشعب وإرادة الأمة قضت بأن يتم اغتيال الشرعية والديمقراطية والحريات العامة في مصر، والقضاء على أي شكل من أشكال المعارضة، وحل البرلمان المنتخب، وإلغاء الأحزاب السياسية، وتعطيل المؤسسات الدستورية، وتكبيل مؤسسات المجتمع المدني، والسيطرة الكاملة على وسائل الإعلام، والتحكم بمفاصل الثقافةً والفكر، وتكميم الأفواه تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، كما رددنا بكل اندفاع وحماس مع جموع المتظاهرين من أشقائنا المصريين هتاف "لا أحزاب.. ولا برلمان"، فأقيل قائد الانقلاب أو الثورة اللواء محمد نجيب، بسبب إصراره على إرجاع الجيش لثكناته وعودة الحياة النيابية المدنية، ووضع، دون محاكمة، تحت الإقامة الجبرية لسنوات طويلة.

وقد صفقنا ورقصنا طربًا ونشوة للمكاسب السياسية والإعلامية التي حققها عبدالناصر- رحمه الله- عند قيام الشعب المصري بالتصدي للعدوان الثلاثي الغاشم الذي تعرضت له مصر الشقيقة في العام 1956، وبسبب الزخم والصخب الإعلامي لم نستطع أن نسمع أو ندرك بأنه قد تم في تلك الحرب اجتياح سيناء واحتلالها بالكامل حتى الضفة الشرقية لقناة السويس من قبل إسرائيل، ولا أن نعرف بأي ثمن تم اجبارها على الانسحاب منها، ولم يخبرنا أحد في ذلك الوقت بأن تلك الحرب كانت قد خلفت وتركت "آثارًا" توجب إزالتها فيما بعد بخوض حرب 1967 الكارثية.

آمالنا كانت تنتعش عندما كان الزعيم الراحل يغرد ويردد شعارات الوحدة العربية ملايين المرات، لكننا لم نكن على استعداد للاعتراف بأن الفشل كان من نصيب أول تجربة لها عندما انفصلت سوريا عن مصر وانهارت الجمهورية العربية المتحدة في العام 1961، وتحول الأمل إلى سراب لتكون تلك التجربة المؤلمة أول وآخر محاولة لتحقيق حلم الوحدة العربية.

ونظرنا إلى الرئيس عبدالناصر- رحمه الله- بكل إكبار وتقدير وشموخ عندما هب بنخوته العربية لنجدة ودعم ومساندة الانقلاب العسكري الذي وقع في اليمن في العام 1962 لتخليص الشعب اليمني من براثن نظام حكم غارق في الاستبداد والجهل والتخلف، وكل من قال إن ذلك كان بمثابة المغامرة المتهورة والتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى اعتبرناه جبانًا خائنًا عميلًا، فالمد الثوري القومي في عهد عبدالناصر لا يجب أن يعرف الحدود، فأيدنا تلك الخطوة المباركة، وإذا باليمن يتحول إلى مستنقع بعد أن اشتعلت فيها حرب أهلية دامت لأكثر من 5 سنوات، راح ضحيتها ما بين 5000 و15000 قتيل من الضباط والجنود المصريين، وأدت إلى توسع رقعة الخلافات وازدياد التوتر في علاقات مصر بعدد من الدول العربية، لقد أرهقت حرب اليمن الخزانة المصرية، وبددت احتياطي مصر من الذهب؛ الذي أكده الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مؤخرًا، عندما قال: "تعالوا بينا نرجع للخلف.. أرجو منكم كلكم يا مصريون تأخذوا كلامي بجدية. في سنة 1960 كان في غطاء ذهبي للجنيه المصري، البلد دي مكنتش مديونة بجنيه، لكن كل ده راح في حرب اليمن، انتهى كل الغطاء الذهبي اللي كان موجود".

وعلى الرغم من هولها وفداحتها فإننا لم نقبل أن نعترف بأن ما حصل في حرب العام 1967 مع إسرائيل كان هزيمة ساحقة ماحقة، وأطلقنا عليها تخفيفًا "نكسة"، مجرد نكسة، ويا لها من نكسة!

لم يكن يهمنا ما حصل في الأيام الستة من تلك الحرب، ولم يكن يعنينا كم من الأراضي العربية الشاسعة احتلت، وكم من الدماء العربية سفكت، وكم ألف من الأرواح أزهقت وكم جندي أو ضابط جرح أو أسر، وكم من العتاد الحربي دمر، وكم تكبدت وتحملت الأمة العربية من آلام وجراح، وخسائر مادية ومعنوية، ومن خزي وعار ومذلة وهوان.

ما كان يهمنا في ذلك الوقت هو أن يوافق الرئيس جمال عبدالناصر ويرضخ لإرادة الأمة ويتراجع عن قراره بالتنحي بعد إعلانه تحمل المسؤولية الكاملة لما حدث، وحمدنا الله وأثنينا عليه، وهللنا وكبرنا فرحًا عندما وافق على التراجع عن قراره والبقاء في سدة الحكم والاستمرار بالإمساك بدفة القيادة، لم نتمكن من البكاء في ذلك الوقت؛ فقد بلغت شدة وحدة الآلام المستوى الذي جعلنا نفقد الإحساس بها، ولن يصدق جيل اليوم ولا الأجيال القادمة بأن ذلك فعلًا ما حدث.

لكننا بكينا في مثل يوم غد قبل 50 عاما، وما زلنا نبكي بحرقة وألم، ونقول: أذكروا محاسن موتاكم. فليرحمِ الله جمال عبدالناصر وليعفُ عنه وليسكنه فسيح جناته.