د. صالح الفهدي
في سنواتها المدرسية الأخيرة لاحظت إحدى الطالبات اهتمامها بالمعمار الهندسي للمدن، وتجلَّى ذلك في قراءتها كتب المعمار الهندسي، وبحثها عمَّا يتوافق مع ما أصبح شغفاً بالنسبةِ لها، ويوماً بعد يوم بدأ هذا الاهتمام يتنامى لديها، وبدأت تبحثُ عن الجامعات التي تحتضن التخصصات المتوافقة مع هذا التخصص، كما بدأت ترسمُ الصورة الذهنية لها في المُستقبل.
المدرسةُ بالطبعِ غائبةٌ عن هذا الاهتمام الذي يشغلُ اهتمام الطالبة لأنها –أي المدرسة- تبدو غير معنيَّة به كأنهَّ ليس جزءاً من رسالتها ولا يجب أن يحوز على ذرةٍ من انشغالاتها..! وبعد أن أكملت الطالبة دراستها في الدبلوم العام وضعت قائمة من الخيارات في برنامج القبول الموحَّد على رأسها بالطبعِ الهندسة المعمارية، لكنها حصلت بحسب المُعدل التنافسي على خياراتٍ أُخرى غير ما كانت تطمح طوال السنوات الماضية، فشعرت وكأنما قد تحطم حلم عظيم لطالما بَنَتْ من أجله الرؤى والتصورات المرتبطة بمستقبلها فيه.
حالةُ هذه الطالبة تجسِّدُ حالات الكثير من طلبة وطالبات وضعوا آمالهم وطموحاتهم في تخصصات معيَّنة، وفوجئوا بأنهم وضعوا في مسارات أُخرى لا علاقة لهم بها، وكأنما هي مجرَّد (تكملة دراسة) ونيل (ورقة تخرُّج) وليس بناءُ وطن، وإسهامٌ في تنميةٍ، وتوجيه في مسارٍ يتوافق مع ملكات وقدرات المُتعلِّم.
كيف يكون العلمُ إذن مؤسساً لقاعدة البناءِ المستقبلي، إذا كان المسار المستقبلي في التعليم يتحدَّد وفق عاملٍ واحد هو (المعدل التنافسي)، ولا يشتركُ مع هذا الاهتمام الشخصي، والشغف الذاتي ومقوِّمات نفسية وفكرية عديدة؟! كيف يكون التعليم صاقلاً لكفاءات المستقبل إن لم يعتنِ بالاهتمامات الفردية، والذكاءات الشخصية، والقدرات التي يتمايزُ بها المتعلمون؟!.
لقد نجحت سنغافورة لأنها "شخلت" أصحاب الاهتمامات والقدرات من الطلاب في سنوات ما قبل الدراسة الجامعية، بناءً على محدِّدات معينة تبيِّنُ تلكم الاهتمامات والقدرات فيهم وليس اعتماداً مجرَّداً على درجاتهم، ووضعت لهم – وفقاً لهذا- مسارات محدَّدة وضعوا على أساسها في التخصصات الجامعية التي توافقهم.
ولنا أن نتصور الأعداد الكبيرة التي لا تضمنُ مسارات تعليم جامعي مُناسب لهم كيف يكون حالُهم وهم يدرسون تخصصاتٍ لم يكونوا يرغبونها، ألا يواجهون معضلات دراسية؟ ألا يشعرون بفتورٍ وعدم اهتمام؟ ألا يُنهي بعضهم ارتباطه بها لأنها مضيعةٌ لعمره؟! كل هذا احتمالات موضوعية ومتوقعة.
إن المسارات الجامعية لا يجب أن تُحسم بالدرجات العلمية فهي ليست كل شيء، فكم من حاصل على معدلات عُليا لا يتمتع بخصائص وصفات شخصية وقدرات ذهنية لا تتوافق مع دارسٍ للطب أو للقانون أو للهندسة أو غيرها لأنها ستؤثر على أدائه لاحقا في العمل..! وقد يتقدم عليه من هو أقلُّ منه في معدله التنافسي لأنه يمتلك تلك المؤهلات الذهنية والنفسية والشخصية التي تجعل منه مبدعاً في عمله.
وإذا كان قرار اختيار التخصص هو من أهم القرارات المصيرية التي يجب أن يتخذها الفرد المتعلم بناءً على معطيات عديدة كالميول، والاستعدادات، والقدرات، والأهداف، والقِيم، فإنه يقع في إرباكٍ كبيرٍ لاحقاً حين يجدُ نفسه بسبب وضعهِ في تخصصات لا يجدُ فيها نفسه، ولا يكادُ يعي ما هو واقعٌ عليه إذ يبدو الطريق أمامه غائماً لأنه رسم لنفسه مساراً بعد رويَّةٍ، وتمحيصٍ، ومعاناة، ثم يجدُ نفسه وقد لوَّحت الرياح بأشرعته لتدفعه في بحارٍ أُخرى لا يعرفُ مسارها، ولا يعي مخاطرها..!
إذن لابد من وضع مساراتٍ تحددِّ مستقبل المتعلم قبل أن ينهي تعليمه المدرسي لينتقل إلى الجامعة أو إلى معاهد التدريب، أو مباشرة إلى سوق العمل، إذ لا يمكن أن يحسم أمر التخصصات الجامعية وفقاً لأرقام الدرجات بعيداً عن العناصر الشخصية الأهم (الميول، الاستعدادات، القدرات، القيم، الأهداف) فهذه التي ستؤثر على العمل مستقبلاً إيجاباً أو سلباً لا الدرجات العليا.
هذا تحدٍ كبير واجهته بعض الدول بحنكة وحكمة فلم يكن تطبيقه مستحيلاً عليها كما قد تحتجُّ بعضُ العقول.