يوسف بن حمد البلوشي
السلطنة من أكثر البلدان تنوعاً من الناحية الجغرافية والمناخية والمكانية، ولتحويل هذه التحديات إلى فرص اقتصادية واعدة، لا بد من تفعيل هذه الخصائص الإستراتيجية في تعظيم دالة الميزة الاقتصادية النسبية والتنافسية الثانية للسلطنة -بعد النفط- مما يتطلب فكرا وفلسفة جديدة للتنمية الإقليمية.
ووصلت السلطنة بعد خمسة عقود من البناء إلى إقرار اللامركزية كأداة ومنهج للتنمية، وتعد اللامركزية أبرز سمات رؤية "عمان 2040"، ويبدو أن هناك الكثير من التكهنات وعدم الوضوح فيما يتعلق بالمقصود باللامركزية. ويكمن هدف اللامركزية الرئيسي بقيام المحافظات بوضع وتحديد أولوياتها التنموية المناسبة بدلا من المركز، والعمل على تنفيذها؛ بحيث تؤدي إلى إدارة عامة رشيقة، وقدرة على تحقيق أهداف الدولة الاقتصادية والاجتماعية، وتعظيم الإنجاز بفترة أقصر.
إلا أن تحقيق اللامركزية يأخذ وقتا طويلا، ويحتاج إلى تضافر العديد من الجهود، بعد وجود الإرادة السياسية لذلك. ولقربي من ملفات وتوجهات الرؤية، أود إيضاح بأن اللامركزية بهذا المفهوم، تمَّ إقرارها بعد دراسة مستفيضة لجاهزية السلطنة واحتياجات السلطنة وما يتناسب مع مرحلة النمو القادمة والجاهزية التي تنعم بها السلطنة لمساهمة في التحول إلى نموذج تنموي قائم على المزايا النسبية للمحافظات؛ الأمر الذي يقتضي إعادة توجيه مزيد من الاهتمام والموارد العامة، وتحفيز النشاط الاقتصادي في المحافظات بما يتوافق وخصوصية كل محافظة وميزاتها النسبية. ولتلافي التباين القائم بين المحافظات وتحقيق أحد توجهات الرؤية جاء توجه تحقيق تنميه إقليمية متوازنة كمحاولة لوضع الفرد والشركات في كل محافظة في لب عملية التنمية الشاملة والمستدامة، وعملية صنع القرار بهدف إحداث توازن نسبي بين المناطق المتباينة وتطويرها من حيث المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والعمرانية، والخدمية، والثقافية. والحد من ظاهرة الهجرة الداخلية إلى العاصمة مسقط، التي ولدت لعقود خلت ضغوطا اقتصادية واجتماعية وبيئية على العاصمة، وحدَّت من تنمية المحافظات.
وتشير الأدبيات المتعلقة بنهج اللامركزية إلى العديد من الصعوبات التي تواجه الانتقال للامركزية، يكمُن أبرزها في معارضة السلطة المركزية للتخلي عن صلاحياتها الإدارية والمالية لصالح المحافظات، ووضع القرار بيد المجتمعات المحلية لتلك المحافظات. وفي السياق الوطني، فقد كان جلالة السلطان -حفظه الله- واضحا في تطلعاته بتحقيق اللامركزية من خلال الهيكلة الإدارية الجديدة، وعلى وجه الخصوص، المرسوم السلطاني رقم 101/2020 بإصدار نظام المحافظات والشؤون البلدية، وتكليف وزارة الداخلية بإصدار اللوائح والقرارات اللازمة لتنفيذ أحكام النظام. حيث إن من شأن اللامركزية تعزيز الارتقاء بمجلس الشورى ليتفرغ لدوره الأصيل والمتمثل بالأدوار التشريعية والرقابية، بدلا من الدور الحالي الذي يتركز عل المطالبة بالخدمات للولايات والمحافظات التي ينتمي إليها الأعضاء. كما يمثل الدور التشريعي والرقابي محورا أساسيا في تحقيق أهداف الحوكمة في عمان 2040 من خلال أدوات المحاسبة والمساءلة.
ومن الصعوبات الأخرى التي تواجه تطبيق اللامركزية، عدم وضوح أحكام ولوائح وإجراءات اللامركزية فيما يتعلق بطبيعة الصلاحيات الممنوحة للمحافظات ونقلها من المركز؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى اقتصار موضوع اللامركزية على بعض الإجراءات الإدارية التي قد تعمل على زيادة البيروقراطية في مؤسسات الدولة، دون أن تسهم في توسيع قاعدة صنع القرار وإشراك المجتمعات المحلية فيه بما يحقق الغاية المرجوة.
وتأتي هنا أهمية وضوح اللوائح المنظمة للامركزية والتي تعكف حاليا وزارة الداخلية على إصدارها بحسب المرسوم السلطاني. إلى جانب ذلك، لا بد من إبراز التحدي المتمثل في نقص الخبرات التخطيطية والتنموية في المحافظات؛ الأمر الذي يستوجب خطة واضحة لرفع كفاءة الكوادر الوطنية في المحافظات في شؤون التخطيط والبرامج التنموية.
ويهدفُ نهج اللامركزية للتعامل مع محورين؛ الأول: إداري؛ يهتم بتبسيط الإجراءات ومنح صلاحيات إدارية للفريق المعني بكل محافظة بما يسهل على المواطنين وشركات القطاع الخاص في كل محافظة. والمحور الثاني: اقتصادي؛ يهتم بتعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية والمزايا النسبية لكل محافظة. وهو يمنح السلطات اتخاذ قرارات اقتصادية واستثمارية وتجارية بما يحقق المبتغى في إيجاد فرص عمل لأبناء المحافظات والولايات ويحد من الضغط على العاصمة مسقط.
ولعلنا لا نتجاوز إذا قلنا إنَّ ملف اللامركزية يضاهي من حيث الأهمية ملفات التنويع الاقتصادي وتحقيق الاستدامة المالية وتوفير فرص عمل وغيرها، والفيصل في نجاحها هو إدارة القائمين عليها، ومدى استيعابهم وإيمانهم بها. فالإدراة هي بيت القصيد ويجب التعامل برويَّة وحكمة وتبصُّر في الانتقال من المركزية إلى اللامركزية. ومن المؤكد أنَّ هناك العديد من التجارب الدولية وأفضل الممارسات التي ينبغي تطويعها بما يناسب النسيج وخصائص المجتمع العماني. ومن وجهة نظري، فإنَّ اللامركزية سلاح ذو حدين فقد يعمل كأداة تنموية وسياسة عامة تساعدنا لمواجهة تحدياتنا الاقتصادية والمالية الجسيمة، وقد تكون أداة معطلة تعمق البيروقراطية والمحسوبية والقبلية والفساد، خاصة في المراحل الأولى. ولنا الخيار!
ونجاحنا في تطبيق اللامركزية وجني ثمارها كغيرها من القضايا سالفة الذكر لن يتحقق تلقائيًّا بمجرد إقراره، وإنما هناك حاجة ملحة لخطة تحول واضحة المعالم والسياسات لتأثير على أنماط وسلوكيات الأفراد والأسر والشركات في المحافظات والولايات، ودائمًا ما نؤكد أن كل ولاية ومحافظة تنعم بميزة نسبية ويقطنها مختلف الفئات المجتمع منهم المهندس ومنهم المحاسب ومنهم صاحب رأس المال، ومنهم من لديه أفكار لمشاريع تجارية، ومنهم من لديه أبناء يبحثون عن عمل. ويبقى السؤال الأهم: هل نستطيع إيجاد الخلطة والتوليفة الضرورية للاستفادة من كل مكونات المذكورة لإعداد الوجبة التنموية في كل محافظة؟ وما نحتاجه هو تجميع وربط كل ذلك وتوجيهها لخدمة المجتمع والتحول إلى اقتصاد إنتاجي لتحقيق تنمية إقليمية متوازنة في ربوع الوطن الجميل.
ما نتمناه التسريع في ترتيب أوراق المنهج الجديد والاستفادة من المميزات التي يتيحها من سرعه في اتخاذ القرار الإداري والاقتصادي والاستثماري، وأن نرى خارطة الميزة الاقتصادية النسبية لكل محافظة من محافظات السلطنة، وصولا إلى برنامج تنموي خاص بكل منها، والبدء بتنفيذ هذه البرامج والمبادرات لتنشيط المحافظات والولايات مثل الشركات المجتمعية والعمل التطوعي وغيرها، وتعظيم الاستفادة من الإستراتيجية الوطنية العمرانية التي وضعت إلى حد بعيد ميزات محافظات السلطنة، وحددت الأطر العامة لمشاريعها التنموية لتحقيق تنمية متوازنة وتنفيذ الرؤية عمان 2040. وما نتمناه أن يتم استغلال الميزة الاقتصادية النسبية للمحافظات لتحقيق التكامل الاقتصادي المحلي. ونرى التنافس المحمودة لخدمة عمان وتعمل المحافظات في وحدات محلية متجانسة اقتصاديًّا، ونشهد نشاطا وتخصصية بين المحافظات فهناك محافظات التميز الزراعي، ومحافظات التميز الصناعي، ومحافظات التميز السياحي، ومحافظات التميز الصناعي الاستخراجي (الموارد النفطية والمعدنية)، ومحافظات التميز البحري، ومحافظات التميز الصناعي التقني (المدن الذكية). وما نتمناه أن نرى تطويرا في عمليات التشابك القطاعي بين الأنشطة الاقتصادية والخدمية بين المحافظات المختلفة.
... إنَّ الفريق المعني بهذا الملف يحتاج مهارات إدارية كبيرة وفكرا إستراتيجيًّا، وأن تطوع له السبل وتتعاون معه الأسر والأفراد والشركات في كل محافظة. فمن وجهة نظري أن المحافظ يعد بمثابة المدير التنفيذي للمحافظة المعني بالنهوض بها وتوظيف مواردها واستغلال مزاياها، والقدرة على إبرام صفقات اقتصادية وجذب استثمارات للمحافظة وغير ذلك.
ولتسريع الخطى، وبدء مرحلة جديدة من الإنجاز، فإن المرحلة المقبلة تتطلب تغييرات جوهرية في إدارة الملف الاقتصادي ومن بينها اللامركزية، وأن نكون أكثر إيمانا بأننا نستطيع أن نستثمر وننتج ونصنع ونصدر من عُمان إلى العالم. كما أن التحول إلى نموذج إنتاجي يتيحه التنوع القطاعي والمزايا النسبية التي تتمتع بها مختلف محافظات السلطنة لن يحدث بالاعتماد على الإمكانيات والخبرات والمعرفة الداخلية فقط، فهناك حاجة ملحة لاستجلاب المعرفة والتكنولوجيا والمهارات والخبرات، التي تساعدنا على سبر أغوار المستقبل وتعظم الاستفادة من الجاهزيه والموارد الطبيعية والمكانية في مختلف ربوع الوطن الجميل.
لقد تمَّت صياغة رؤية "عمان 2040"، من قِبل المجتمع ومن أجل المجتمع، وما نتمناه أن يتم إشراك جميع أطياف ومكونات المجتمع في إعداد خارطة تنموية لكل ولاية، ومن ثم لكل محافظة، وتجميعها للوصول إلى خارطة تنموية مجمعة للسلطنة بأكملها. كونها ستعمل كبوصلة لتوجيه الاستثمارات المحلية والأجنبية إلى قطاعات ذات أولوية تنموية، وتلبي احتياجات ومتطلبات أساسية لمرحلة التحول الاستراتيجي المنشودة وما يستلزمه ذلك من إجراء تغيرات جذرية في أسلوب إدارة ومعالجة العديد من القضايا. هذا إذا كنا نريد الاستثمار والإنتاج وتحقيق التنمية المستدامة.
إن الانجازات المحققة خلال الحقبه الماضيه توفر أرضية صلبة للانتقال إلى طور ثاني من التنمية ونجاح اللامركزية والتي هي ضرورة ملحة تفرضها مستجدات واحتياجات التنميه وما نحتاجه التعامل مع المعطيات بفكر مختلف يحقق مكاسب للحكومه وأفراد المجتمع والقطاع الخاص ويمكن لتطبيق نهج اللامركزيه أن يشكل أبرز مفاتيح الحل و اليات تحقيق الرؤية 2040 والاختيار بأيدينا!