البجعة السوداء "كوفيد 19"

فاطمة الحارثية

عندما تكون "الكفاءة" هي أول ما تُواجهه مخرجات التعليم لدينا في عالم الأعمال والعمل، تبدأ العمليات الحسابية بالتفاعل في حساب مرير مع الواقع، يُناشد العمر الطويل الذي يقضيه الإنسان في المدارس، والكليات والجامعات والمعاهد ومختلف سُبل التعلم؛ إذ اتَّفق العالم على إنفاق ما يزيد على 14 عاما من عمر الفرد في التعليم العام، وما بين عامين إلى ما يزيد على عشرة أعوام في التخصص؛ لا أراه هدرا لكن يبقى السؤال: هل بالإمكان أن نستغرق وقتا أقل في تلقين المكرَّر، واستثماره في رفع "الكفاءة"؟ هل هناك خطأ أن نأتي بما يُناسبنا ونراه نافعا لنا، وأن لا نكرر فعل باقي دول العالم؟ أليس مؤثرا ومؤلما أن نستغرق هذا العمر كله وكل تلك النفقات ليأتي الرد "أنت غير مؤهل أو غير قادر أو تحتاج إلى التأهيل والتدريب؟"!

قال جورج برنارد: النجاح ليس عدم فعل الأخطاء، النجاح هو عدم تكرار الأخطاء؛ ليفسرِّه لنا جمال عبدالناصر في قول: "الحلول الحقيقية لمشاكل الناس لا يمكن أن تكون بتكرار تجارب الآخرين"، رُبما لأنَّ تجارب الآخرين تخضع لبيئتهم وإمكانياتهم، وأيضا طموحهم الحقيقي ككيان ووجود مستقر وربما مُهَيمن، والشعوب وإن أجمعت على المصير الواحد، فهي بكل تأكيد لا تتشابه في الإقدام والجسارة لنيل النهضة وتحقيق الطموح، إن الطفرة -والتي تعبر عنها البجعة السوداء- هو اختلاف جاء نتيجة ظروف، لم تكن من ضمن السيناريوهات التي استشرفها المفكرون وعلماء الإستراتيجيات وخبراء قراءة المستقبل وبنائه. إننا أمام تحديات ارتبطت بنا عاطفيًّا؛ لذلك أصبحت حساسة وصعبة جدا، فكلٌّ منا تهون عليه الأولويات، عندما تكون سلامة وصحة فلذات الأكباد في جوهر القرار؛ تباينت الآراء والأحداث ما بين مؤيد ومعارض، وقلق وخائف، ومغامر... والكثير الكثير، وأرى أن الاستسلام ليس حلًّا، وكثرة الحوارات والاستشارات لا تأتي إلا بالمزيد من هدر الوقت اللازم للتنفيذ والتطبيق، بل نحن في حاجة إلى استحداث الحلول الواعية والمنطقية، بعيدا عن أفكار الصندوق المغلق والمتداولة، فوطأة الأمر ليست فقط على أطفالنا، بل أيضا مرتبطة بمستقبل من سيُديرون دفة هناء ورخاء البلاد مستقبلا، وأية آثار ليست في الحسبان قد لا نحتمل عواقبها.

أوجدت الحكمة التعليمية سابقا حلولا لمن لم يستطع أن يواكب بعض سنوات التعليم، بأن اختزلوا تلك السنوات بمناهج مكثفة، وحلول أخرى مثل التعليم المفتوح، والكثير غيرها من سُبل التلقين التي ساعدت الطلاب على أن يجتازوا اختبارات الانتقال، واختبارات التعليم العالي والتعليم المهني؛ إن رفع الإمكانيات التقنية والتخصصية مبكرا لدينا بات مطلبا أساسيا، ليُمكن للمواطن تحمل مسؤولياته ومواكبة ركب التطور والنمو الاجتماعي والاقتصادي، فالمهن تحتاج إلى مهنية أكثر من النظريات، وأيضا لتحقيق الإحلال دون الإضرار بالمنجزات التي أسهم الأجنبي في بنائها معنا إلى الآن.

والعبء الأكبر يقع على عاتق المنظمة التعليمية لدينا بجميع أصولها وفروعها في تحقق رؤى الوطن ونماء المواطن قبلها. ولا يُمكن للتغيرات أن تحدث في زمن يُحسب أنه قياسي لوطأة "كوفيد 19" علينا، في الوقت الراهن وتبعاته في المستقبل، لكن هذه البجعة السوداء تمنحنا تجددا في الرؤية، وتقييما مناسبا، وأيضا اختبارَ سيناريوهات لاستشراف مستقبل أفضل، قادرٍ على تلبية الاحتياجات الحقيقية التي نحتاجها للتوازن والبقاء في ثبات وتركيز. لم نُهزم من قبل، ولن نُهزم الآن لردم إرهاصات "كوفيد 19"، والاستمرار بطريقتنا وأسلوبنا الذي يُميزنا بعيدا عن التشدق والنسخ.

... إنَّ المقارنة مع الغير أمرٌ مرفوض جملةً وتفصيلا، وما ناسب غيرنا ليس بالضرورة أن يُناسبنا، فيا أهل الغوغاء والذم، ليكن الحديث خيرا أو نصحا أو فكرا، أو أصمت، فالوضع لا يحتمل الكثير من الكلام، أو تخمة المتصيدين من أجل "شهرة"؛ فـ"كوفيد 19" بدأ ينهش في مستقبل أطفالنا، فكونوا عونا في التوجيه والنصح، فالقرار صعب ومُكلف لدى البعض، ومؤثر ومُتعِب لدى البعض الآخر، وعلى جهات ووسائل الإعلام التدبر والأخذ بزمام الأمور وعدم السماح بنشر الحيرة، التي تأتي بسبب اختلاف وتناقض التصاريح.

-----------------------

جسر:

لم يستطع أحد عبر التاريخ أن يستسهل بناء الإنسان، وإنشاء الأوطان، ما بال من هم على جسر الاستحداث والتجديد، واستكمال المراحل من لبنة متغيرة يحتاج إلى استقرار لاستدراك ما يُدرك، وترك ما لا يُحمد، من أجل البقاء.