مفاهيم خاطئة للسعادة

 

د. صالح الفهدي

غالباً ما يسودُ الترويج لمفهومٍ جديدٍ للسعادة يقتصرُ على حيازة المال والكماليات الأخرى كالسيارات الفارهةِ، والساعات الثمينة، والقصور المنيفة، واليخوت الغالية، والحياة المُترفة بكل ما في الكلمة من معنى، وتكلل هذا المفهوم بظهور فئة (الفاشنستات والمشاهير) وهو ما يُطلق على شريحة بعض الأسماء المشهورة في فضاءات التواصل الاجتماعي بمحتوى فارغ مملوءٍ بتفاهةِ المفاهيم المغلوطة عن السعادة، وسخف الظهور بمظهر الإنسان الذي وصل إلى قمة السعادة.

ولا شك أنَّ أثر هذه الفئة كان كبيراً على المعجبين بهذه المفاهيم السطحية للسعادة، ويتمثل ذلك في تكدسهم وازدحامهم على المحلات التي يروِّجون لها، واستهلاكهم للمُنتجات التي يشيدون بها، وكأنما قد أنطلى عليهم السحر الكاذب، ووقعوا في الفخ المنصوب! في دراسة ميدانية أجرتها الباحثة فاطمة السالم أستاذة الإعلام في جامعة الكويت توصلت الباحثة إلى غالبية الشريحة المستخدمة، والتي تمثل المواطنين الكويتيين 60.5% يتابعون "الفاشنستات" في مواقع التواصل الاجتماعي، و36.6% لا يتابعونهم، و2.9% لا يعرفون الإجابة،  وتوصلت الدراسة إلى أنَّ 32.3% يتأثرون بـ"الفاشنستات" في قرارات الشراء!

وقبل هؤلاءِ فإنَّ مجتمعاتنا هي مجتمعات استهلاك الشيء، حتى إن الفيلسوف مالك بن نبي أسماها "مجتمعات الشيء" نظراً لأنها تشتري لتكدِّس لا لتستهلك، وتقتني لتمتلك لا لتستنفع، وقد زاد الطين بلَّة ظهور مشاهير (الخواء) الاجتماعي الذين يحققون ثراءهم المشروع وغير المشروع على حساب دفع الناس إلى الاستهلاك، بل دفعهم إلى الهلاك بسبب ترويجهم لمنتجات أدَّت إلى هلاكهم..! واستغل بعض الخبثاء ظهور هذه الفئة الجاهلة لمفاهيم السعادة فاستطاعوا توظيف رغباتهم الجارفة نحو المال بأيَّة طريقة كانت لغسيل أموالهم وإضفاء الشرعية القانونية لأعمالهم الإجرامية حتى انكشفت الأغطية، وتم فضح المقاصد الإجرامية من وراء كل هذه الممارسات الشاذة التي أسهمت في تأسيس مفاهيم مغلوطة للسعادة لكنها ليست النهاية بل هي مسلسل مستمر باستمرار الشهوة الإنسانية الخارجة عن الطوق نحو جمع المال لأنه في المفهوم الضيق هو أساس السعادة!

استوقفتني صورة للاعب السنغالي الشهير ساديو ماني الذي يربو دخله السنوي على 10 ملايين دولار ويظهر فيها شاشة هاتفه الخلوي المكسورة، وتتبعتُ ما نُشر عنها فوجدتُ تساؤلات المُعجبين عمَّا يمنعه من شراء هاتفٍ جديدٍ بدل هاتف تحطَّمت شاشته، والهاتف أساساً هو هدية من صديقه اللاعب الهولندي Gini  Wijnaldum  ثم قرأتُ مُقابلةً لهذا اللاعب يقول فيها "إنَّ هدفي هو أن أساعد النَّاس" ويضيف "لماذا أحتاج إلى عشر سيارات فيراري، وعشرين ساعة ألماس، وطائرتين نفَّاثتين؟ ما الذي يُقدمه ذلك للعالم؟ كنت أتضور جوعاً، وعملت في الحقول، ولعبت حافي القدمين، ولم أذهب إلى المدرسة. الآن يُمكنني مساعدة الناس، أُفضِّل بناء المدارس وإعطاء الفقراء الطعام أو الملابس. إضافة إلى ذلك، أعطي 70 يورو شهريًا لجميع الأشخاص من منطقة سنغالية شديدة الفقر من أجل المُساهمة في اقتصاد أسرهم. لا أحتاج لعرض السيارات الفاخرة والمنازل الفاخرة والرحلات وحتى الطائرات. أفضل أن يتلقى شعبي القليل مما أعطته لي الحياة".

انظروا، واعقدوا المُقارنات بين تافهين يروِّجون مفاهيم عوجاءَ سقيمة للسعادة تقومُ على جمعِ المال بأيَّةِ طريقةٍ كانت ثم ينفقونها- بصفاقةٍ وتبجُّح- على شراءِ ما لا يحتاجون بل ولا يرغبون في الأساس لكن الشهرة تلزمهم بذلك، وشركات غسيل الأموال أيضاً! قارنوا بين هؤلاءِ الجهلةِ وبين هذا الرجل الذي طعم مرارة الحياة، ثم طعم حلاوتها فلم تطغ الحلاوة على المرارة بل تذكَّر أهل وطنه الذين يعانون من وطأة الفقر، والجهل، والفاقة وآثر أن يقتسم معهم جزءاً مما أنعم الله عليه.

ليس غريباً على هذا اللاعب القدوة فقد تحدثتُ عنه في إحدى حلقات برنامجي "كن جميلاً" حينما ذهب لتنظيف دورات مياه أحد المساجد بعد أن سجَّل أهدافاً في إحدى مُباريات الدوري الإنجليزي ولعله استشعر بغرور نفسه وتعاليها فأراد أن يُؤدِّبها كما فعل الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى.

إنَّ مفهوم السعادة الحقيقي يبدأ من الإحساس بالآخرين، تقاسم النعم، مُساعدة النَّاس، التخفيف على المرضى، التفريج على المعوزين، معونة الضائقين، تقديم الدعم للمجتمع، إنشاء المشاريع الخيرية، القيام بالأعمال التطوعية. هذا المفهوم هو الذي يدعمه ديننا الحنيف فرسولنا الأعظم عليه السلام يقول "من كان له فضل زادٍ فليجد به على من لا زاد له" ويقول"خير الناس أنفعهم للناس" ويقول"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".. أمَّا مفاهيم السعادة التي بدأت تتسلل إلى عقول الناشئة والشباب على أنه حيازة أكبر قدرٍ من المال وإنفاقه على التفاهات والكماليات فتلك مفاهيم لا علاقة لها بالسعادة فكم ممن يمتلك الأموال الباهظة وكل ما يشتهي في حياته قد انتحر بسبب فراغ الأهداف، وخواء المقصد الحقيقي لوجوده على قيد الحياة، وكم جرَّت تلك المفاهيم المعوجَّة للسعادة أصحابها إلى عوالم مظلمة في السجون، أو أردتهم في أوكار الفاحشة وتعاطي المخدرات.

أن تسعد- في الحقيقة- يعني أن تكون مساهماً في إعمار الأرض، وإسعاد النَّاس، وتقديم الخير لمن يحتاجه، هذه المفاهيم هي التي تشكِّل مفهوم إنسانية الإنسان التي تسبق شعوره بالسعادة، هذه المفاهيم هي التي توثق ارتباطه وانتماؤه لمجتمعه بصورة قوية، يقول عبدالوهاب المسيري رحمه الله: "الإنسان الجسماني الاستهلاكي المنشغل بتحقيق متعته الشخصية يدور في دائرة ضيقة للغاية خارج أي منظومات قيمية اجتماعية أو أخلاقية‏،‏ ولذا نجد أنَّ ولاءاته للمجتمع وللأسرة تتآكل بالتدريج‏، كما أن انتماء مثل هذا الشخص لوطنه ضعيف للغاية إن لم يكن منعدماً".