التعاطي مع "حق" الخطأ

 

د. صالح الفهدي

الخطأ طبيعة بشرية يتَّصف بها البشر من أجل أن يجربوا ما يقدمهم، ويحاولوا ما يُحسِّن وسائل معيشتهم، ولأنها طبيعة البشر؛ فقد كان العفو والغفران من الله مُتاحاً بل وأسماء حسنى من أسمائه المقدسة، لكن الثقافة في مجتمعاتنا صادرت الخطأ من الإنسان منذ بواكير عمره، ولا يقصد بالخطأ هنا الإتيان بأفعال إجرامية أو غيرها التي تتعدَّى على حقوق البشر في الحياة، إنما الخطأ الذي يُحرك في العقل القدرة على التفكير من أجل تلمُّس السبل الصحيحة لحقيقة ما، الخطأ الذي يعتبر المحاولة الحتمية للنجاح للوصول إلى افتراض ما يعتقد أنه هو الصحيح حتى يثبت أنه غير ذلك، أو يأتي ما هو أفضل منه، الخطأ الذي ينشط وعي الإنسان منذ طفولته، فيجعله يخوض التجارب تجربةً إثر تجربة، دون أن يكون ذلك فشلاً في مفهومه، بل محاولة حتمية تصاحبها متعة الشعور بالرحلة.

في ثقافتنا لا نسمح للطفل أن يَخطأ أبداً، لهذا لا يُمكن أن يؤدي واجبه المدرسي وفيه خطأ محتمل، حيث تحرص الأم أو الأب في البيت على أن لا يرتكب طفلهما الخطأ وهما في الحقيقة (يحرسان) ليضمنا عدم ارتكاب الخطأ لأنه مشين للطفل بل ولسمعتهما في المدرسة! ثم يأتي دور المعلمة أو المعلم اللذين يتعقَّبان الخطأ فإذا وجداه استلَّا القلم الأحمر المخيف، وكادا أن يُمزقا الورقة الرهيفة بتلك التأشيرة المُفزعة بحجم كبير راسمين علامة (x)، فيشعر الطفل أنه قد ارتكب جرماً كبيراً، وخطأً شنيعاً، يحاول أن يداريه عن أقرانه وإلا أصبح أضحوكة بينهم، ومصدر استهزاء..! أتسألون: لماذا يكذب الأطفال؟ لأننا لم نتسامح مع أخطائهم الصادرة عن وعيهم الطفولي الساذج، لأننا لم نرحم وعيهم البسيط في بدايات تشكُّله، لهذا يكذبون ليُداروا الخطأ.. يكذب الطفل على مُعلِّمته لأنه نسي الواجب، أو نسي دفتره؛ لأنه لم يعلم أن النسيان طبيعة بشرية، وأن المعلمة تتفهم ذلك.. يكذب الطفل على والديه لأنَّه يعلم أنهم قد علماه أن يقفز مباشرة إلى الفعل الصحيح، وأن يكون عبقريًّا لينتج سلوكًا سليمًا "لا غبار عليه" كمثل أفعالهم الناضجة! لهذا فلا مجال لكي يقول لهم إنه أخطأ، ولا مساحة لتفهمهم للخطأ!

يحكي الكاتب د. عبد الجبار الرفاعي قصة لحفيدته التلميذة في الأول الابتدائي، في مدرسة بمدينة ملبورن الأسترالية، بأنها لا تكترث للخطأ ولا ترتاب منه حين تنبهها أمها إليه في واجباتها المدرسية، بل ولا تُولي اهتماماً لتحذير أمها من تكرار الأخطاء. ويضيف أنَّ مُعلمتها الأسترالية من أصل إيطالي حين اكتشفت آثار الكلمات الممحوَّة في تمارينها على الكتابة استنكرت ذلك، وحذرت أمها مما يتركه هذا السلوك من آثار سلبية في تكوينها النفسي والذهني. لكن الأم التي درست في بلد عربي لا تُلام على ذلك؛ فقد صُودر منها حق الخطأ؛ لهذا فقد رسخ في ذهنها أنَّ ابنتها تخالف الثقافة، غير مُدركة أن ابنتها تتعلم وفق قيم ثقافة مختلفة، تتيح للطفل أن يخطأ ليعيد المحاولة حتى يصل بنفسه إلى قناعة بأنَّ هذا هو الصحيح، مع التوجيه والإرشاد.

وهذا ما سمعته أيضاً حينمَا حضرت منتدى الغد من الأكاديمية السعودية د. خولة الكريع؛ إذ تقول: تعلمت درساً من معلمة ابني في أمريكا، فقد كنت أثناء وجودي هناك أمارس الضغط على ابني في أداء الواجبات ليكملها بامتياز ودون تأخير أو أخطاء، ليحرز أفضل النتائج، فقالت لي المعلمة الأمريكية: إنني أرى الواجبات المدرسية تُحل بانتظام كامل دون نقص.. قلت لها: أنا أساعده في حلها وأضغط عليه، فقالت المعلمة: من الخير له أن يحرز مستوى (ب) وقد اعتمد على نفسه من أن يحرز (أ) وهو معتمد عليكِ!!

ونرَى هنا في ثقافات أخرى أنَّ أدوار المعلمين هي توجيه الطالب، وإرشاده لا مصادرة حقه في الخطأ، فتلك هي خطيئة في حد ذاتها، إذ إن الطالب هنا سيكون مجرد ناسخ، أو حافظ لمعلومات لا يستطيع التفكير خارج نطاقها؛ لأنه يخاف الخطأ الذي لا يُغتفر، وقد قال لي ابني إبان دراسته في إحدى الكليات، إنَّ المعلم رفض إجابته التي أثراها بمعلومات من قراءاته الخارجية، وأصر على أنَّ الإجابة يجب أن تتطابق مع إجابة الكتاب..! هنا يُقيَّد العقل، وتُنمَّط الشخصية، ويُكبَّل الوعي كي لا يخرج عن الإطار المرسوم ليفكر خارجه، فيكتشف عوالم أخرى لم تصل لها عقول البشر قبله!

كيفَ يُمكن للإنسان وهو في بواكير عمره أن يبني وعيه، ويوسِّع إدراكه، ويكتشف الوجود، ولا يُتاح له المجال بأن يخطأ، وأن يجرب، وأن يحاول؟ إنَّ مُصادرة حقه في الخطأ يقيد عقله عن التفكير، ويضيق عليه مساحة الإبداع والابتكار، ويعيق لسانه عن التعبير عن مشاعره خوف الخطأ.

بسبب مصادرة الخطأ في الصغر، يخاف الشاب من التحدُّث بأريحية مع والديه حتى لا يُخطئ، ويخاف من التعبير عن آرائه وأفكاره أمام الناس كي لا يقع تحت طائلة الخطأ، ويخاف أن يبادر بعمل في مؤسسته كي لا يُخطئ، وهكذا ينتشر الكذب لأن الخطأ غير مقبول، وتتضاءل المبادرات لأن الخطأ غير متاح، وتنكفئ الإبداعات لأن الخطأ لا يُمكن التسامح معه. وعلى النقيض؛ فقد أثنى المجتمع على الخامل الذي لا يخطئ، وذم العامل المخطئ!! وفي هذا تشجيع على الخمول والدعة والكسل، لأن الذي لا يعمل ولا يفكر لا يخطئ، وعلى النقيض فالذي يعمل ويفكر لا بد أن يخطئ.

... إنَّ مُدارة الأخطاء واعتبار الخطأ "عيباً" و"فضيحة" قد أدى إلى اختلالات نفسية واجتماعية؛ منها: الكذب والانطوائية والعجز أو النفاق والكذب والتسويف، رغم أننا كثيراً ما نردد مقولة "الاعتراف بالخطأ فضيلة"، إلا أننا لا نكاد نلمس أثرها في الواقع، بل نلمس نقيضها أن "الاعتراف بالخطأ مَنقصة ومَذلة"؛ لهذا يُؤثِر الكثيرون أن يقطعوا العلاقات ويبتعدوا بدلًا من أن يعترفوا بأخطائهم فيشعروا بالذلة والامنتهان والمنقصة!!

أخطاءٌ شنيعة خلَّفتها ثقافة مُصَادرة حق الخطأ، انعكستْ على وعي الإنسان، وتفكيره، وعلاقاته الاجتماعية، وحالته النفسية.. وليس لنا لعلاج ذلك إلا أن نؤمن بثقافة الخطأ، ونعلِّمها أبناءنا وطلابنا، وأنَّه طبيعة بشرية يجب أن نتعاطى معها لا بالانفعال وثوران الأعصاب، بل بالمنطق والهدوء والتوجيه الرشيد.