مع الوزير عبدالباقي وصواريخ القاهر والظافر والرائد

عبدالنبي الشعلة *

* وزير العمل والشؤون الاجتماعية بالبحرين سابقا

أثناء إقامتي في الهند، وفي يوم السبت 20 أكتوبر 1972، تلقيتُ مُكالمة من المكتب الإعلامي لحكومة مقاطعة مهاراشتر الهندية، وعاصمتها مومباي، تدعُوني -ضمن طاقم صحفي- لمُرافقة وتغطية زيارة وزير خارجية العراق آنذاك السيد مرتضى سعيد عبدالباقي، الذي كان يقوم بزيارة رسمية للهند بدأها بزيارة دلهي ثم مومباي في طريق عودته إلى بغداد.

بعد ذلك بسبع سنوات، لَقِي مرتضى سعيد عبدالباقي حتفه ونهايته المأساوية؛ فقد تولى صدام حسين السلطة المطلقة في العراق في 16 يوليو 1979، بعد إزاحة رفيقه الرئيس أحمد حسن البكر، وبعد بضعة أيام، وبهدف ترسيخ سلطته والتخلص من أي منافس محتمل، دعا صدام كبار المسؤولين والقادة بحزب البعث الحاكم إلى اجتماع طارئ برئاسته، بقاعة "الخلد" في بغداد، ونادَى بالاسم على عدد كبير منهم اقتيدوا إلى السجن وتم إعدام أكثرهم فيما سمي بـ"مجزرة الرفاق"، وكان من بينهم مرتضى سعيد عبدالباقي؛ الذي تعرض للتعذيب في السجن قبل أن يتم إعدامه.

نعُود إلى زيارته الرسمية للهند؛ فقد وصل إلى مومباي في يوم الأحد 21 أكتوبر 1972 وكان برفقته وفد كبير رفيع المستوى ضمَّ عددًا من الأساتذة والعلماء العراقيين وعسكريين بملابس مدنية، إلى جانب كبار المسؤولين بوزارة الخارجية العراقية.

وتضمَّن برنامج الزيارة: زيارة "مركز بابا للأبحاث النووية" بمنطقة "ترومبي" في مومباي، وهذا المركز هو أكبر وأهم مراكز التطوير والأبحاث للعلوم النووية المتقدمة ومختلف تطبيقاتها في الهند.

لم يدخُل إلى المركز إلا الوزير الضيف و3 فقط من مرافقيه وعدد من المسؤولين الهنود، وقد طُلب من الصحفيين وباقي المرافقين الهنود والعراقيين الانتظار في القاعة الخارجية للمركز.

وفي تلك القاعة، كانت فترة الانتظار طويلة جدًّا، تعرفت خلالها وتحدثت إلى عدد من المسؤولين الهنود المرافقين المعنيين بشؤون التسليح، وعرفت أنَّ الهدف الرئيس لتلك الزيارة لم يعد سريًّا، وأنه يدور حول البحث في إمكان التعاون بين العراق والهند في مجالات تطوير القدرات والطاقات النووية للعراق، وعرفت أيضًا أن الحكومة الهندية ترى أن العراق قد تُسرِع في الإعلان أو تسريب الهدف من الزيارة، والأهم من ذلك أنَّ الحكومة الهندية لديها جملة من المخاوف والتحفظات في هذا الشأن، وكانت ترى أن إمكانات التعاون مع النظام العراقي في هذا المجال ضعيفة جدًّا، بسبب قناعتها بعدم وجود ضمانات أو ما يؤكد استقرار وبقاء ذلك النظام على المديين القريب والبعيد، إلى جانب إدراك الهند بافتقار العراق، في ذلك الوقت على الأقل، إلى المقومات الأساسية والإمكانات والكفاءات المطلوبة، وعدم مقدرة النظام على تحمل المسؤوليات والتبعات والالتزامات القانونية والفنية والأخلاقية التي تتطلبها مشاريع تطوير الطاقة النووية للأغراض العسكرية.

وفي هذه القاعة، ولاحقًا أثناء إقامتي في الهند، عرفتُ أنَّ للهند تجربة سابقة لم تكن موفقة في التعاون مع مصر في مجال التصنيع الحربي، وبالأخص في مجال تطوير وإنتاج الصواريخ البالستية؛ ففي العام 1957 اتفق رئيس الوزراء الهندي جواهرلال نهرو والرئيس جمال عبدالناصر على الاستعانة والاستفادة من العلماء والخبراء الألمان في الهند ومصر لغرض تطوير وإنتاج الصواريخ والطائرات الحربية، وبالفعل وصل العلماء الألمان إلى مصر وبدأوا تنفيذ برامجهم، إلا أن مصر لم تستطع حمايتهم من استهداف ومخططات المخابرات الإسرائيلية التي قامت باغتيالهم وتصفيتهم بوسائل مختلفة منها إرسال الطرود المفخخة لهم، فاضطر معظمهم إلى مغادرة مصر.

وواصل العلماء المصريون -مع من تبقى من العلماء الألمان- عملية إنتاج الصواريخ، وأشادت وسائل الإعلام المصرية والعربية بنجاحهم في تطوير منظومة من الصواريخ البالستية، وبمناسبة الاحتفال بالذكرى العاشرة لثورة 23 يوليو 1952 حضر الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر حفل الإطلاق الناجح، أمام كاميرات الإعلام، لصواريخ "القاهر" و"الظافر" و"الرائد"، وأكد الإعلام المصري والعربي أن هذه الصواريخ تستطيع أن تصل إلى عمق إسرائيل وتمحوها من الوجود، وكانت في الواقع عملية بروباغندا طاغية؛ فصدق وصفق العرب، وفرحوا لهذا الإنجاز المشرف.

وبعد 5 سنوات من ذلك الحفل، وقعت حرب أو هزيمة 1967، وفي الساعات الأولى منها تمكن الطيران الإسرائيلي من تدمير وإبادة سلاح الطيران المصري وهو جاثم على مرابض المطارات العسكرية في مختلف أنحاء الأراضي المصرية، وانتهت الحرب بعد 6 أيام فقط باحتلال إسرائيل كامل شبه جزيرة سيناء، إلى جانب الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وهضبة الجولان السورية، وكان العرب طيلة تلك الأيام الستة ينظرون إلى السماء في حيرة وترقب وذهول ويسألون؛ أين القاهر وأين الظافر وأين الرائد؟

أدرك العرب لاحقًا أن تلك الصواريخ، بعد تجريبها، اتضح أنها كانت تفتقد أو ينقصها شيء أساسي وهو نظام التوجيه والتحكم بالجهة التي يتحرك إليها الصاروخ!! هذه المشكلة لم يتم التغلب عليها، فتوقف المشروع وأودعت تلك الصواريخ كخردة في مستودعات الجيش المصري، واحتسبت الجهود التي بذلت والملايين التي انفقت والآمال التي استنهضت في خانة "الجهود والآمال والمصاريف المعدومة"، كما حصل الشيء ذاته لمشروع المقاتلة "حلوان 300 النفاثة" الذي أطلقه عبدالناصر، ثم أقنعه السوفييت فيما بعد باستبداله بشراء المقاتلة الميغ 21، التي كما يقول الخليجيون "فَشّلتنا" في مواجهاتنا وحروبنا مع إسرائيل؛ فهي لا تقارن بكفاءة طائرات الفانتوم الأميركية التي تستخدمها إسرائيل.

نعود مرة أخرى إلى زيارة الوزير مرتضى سعيد عبدالباقي لمومباي والتي كانت قصيرة جدًّا؛ ليوم واحد فقط، ففي مساء ذلك اليوم التقيت به في فندق تاج محل، قبل توجهه للمطار، وأجريت معه مقابلة مطولة، طلب مني عدم الإشارة فيها إلى موضوع التعاون النووي بين العراق والهند، وقد التزمت بذلك، ونشرت المقابلة في مجلة "صدى الأسبوع" البحرينية بتاريخ 12 نوفمبر 1972.

واستمرَّت الهند في أبحاثها وتجاربها، وأوكلت إلى أبوبكر عبدالكلام، وهو عالم هندي مسلم، مهمة تطوير صناعات الصواريخ البالستية؛ عبدالكلام هذا أصبح فيما بعد رئيسا لجمهورية الهند التي نجحت في امتلاك القوة الصاروخية والنووية وغزت الفضاء بصواريخها ومسابيرها بما في ذلك مسبار "مانجاليان" الذي نجح في الوصول إلى كوكب المريخ، إلى جانب العديد من الانجازات والبرامج المشابهة.

رحم الله مرتضى سعيد عبدالباقي، ورحم الله صواريخ القاهر والظافر والرائد، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.