الثقافة والشباب

 

د. صالح الفهدي

@dr.salehalfahdi

 

في التسعينات أقمتُ ندوةً بعنوان "الثقافةُ أولاً" حينما كنتُ مسؤولاً في أحد الأنديةِ بمسقط، ودعيتُ اثنين من الرموز المعروفةِ للمشاركة بأوراقهما في الندوةِ إلى جانبي وهما الأديب الراحل الشيخ عبدالله بن صخر العامري مستشار وزارة التراث القومي والثقافة (آنذاك)، والشيخ الأديب هلال بن محمد العامري مدير عام الثقافة في هيئة الشباب (سابقا) ثم في وزارة التراث والثقافة (سابقا).

قدَّمنا نحنُ الثلاثة أوراقاً تناولت أهمية الثقافة لدى الشباب، وذلك من منطلق إيماني بأنَّ الثقافة يجب أن تتقدَّم الرياضة، وتؤسس لتنمية وعي الشباب، وها نحنُ اليوم نرى وزارة تحملُ لأولِ مرَّةٍ هذا المفهوم "الثقافة والرياضة والشباب"، وحينَ واجهتني لافتةُ الوزارة تداعتْ إلى نفسي تلك الفكرة القديمة التي أردتُ لها أن تكون هي الأساس؛ الثقافةُ أولاً. فلماذا الثقافةُ أولاً قبل الرياضة والشباب؟ يُمكننا أن نتخيَّل صورة مثلث تشكِّل الثقافة قاعدته ويشكِّلُ الشباب والرياضية ضلعيهِ الآخرين، لأنَّ الثقافة هي الوعي والإدارك بالمفاهيم الوجودية، والمباديء الأساسية الحياتية، ولا بد أن تكون هي المؤسسة للفكر الذي يجعل للإنسان قيمته وأثره في الحياة، والرياضة هي منشطُ إنساني قائمٌ على مفاهيم محدَّدة، وليس محض نشاط عضلي ليس لها معنى أو قيمة، لهذا قِيل "العقلُ السليم في الجسم السليم" ربطاً للرياضة بأثرها في نشاط الذهن الإنساني وسلامته، وهدفاً سامياً لها.

إن وضع "الثقافة أولاً" يعني إعطاءِ قيمة للشباب، وتعزيز المفاهيم السامية للرياضة، فالشاب الواعي يُدرك أولاً دوره المطلوب تجاه نفسه ومجتمعه، ويعي المساهمات المطلوبة منه للحفاظِ على تاريخهِ وقيمه وحضارته، فهو ليس مجرَّدَ فردٍ خالٍ من القيم والمبادئ والأهداف السامية يمارسُ هوايةً ما، أو يقومُ بنشاطٍ ما، وإنَّما هو حاملُ حضارة، وحافظُ هوية، وناقلُ تاريخ.

في عام 2011 دعاني وزير الشؤون الرياضية لإلقاءِ كلمة أمام رؤساء الاتحادات والأندية عن القيم، وتحدَّثتُ فيها عن أهمية إدراك الشباب لأثر القيم فيهم، وتحدَّثتُ عن الأثر الذي تُحدثه القيم في نظرة الشباب تجاه أنفسهم ومجتمعاتهم، وتطرقتُ فيها إلى الصورة الأمثل لتمثيل الشباب لأوطانهم في المحافل الدولية. 

ولا شكَّ أن الشاب الرياضي المثقف –نلحظُ هنا اجتماع الثلاثة العناصر- يصبحُ قدوةً جاذبة للشباب أكثر من الشاب الرياضي غير المثقف وإن كان أكثرُ مهارةً منه، حيثُ أن المعجبين به من الجمهور ما إن يسمعوه وهم يتكلَّم حتى يقلُّ إعجابهم به، فتسمع منهم عبارة "إنه لا يحسن الكلام"..! وقد استقطبَ بعض الشباب الرياضيين المثقفين إعجاب شريحةٍ واسعةٍ من الجمهور، فجعله من القدوات التي على الشباب أن يسلكوا مسلكها.

إذن فوجود "الثقافة أولاً" ليس مجرَّد تقديم كلمة، أو رفع شعار، وإنما تأسيس وعي، وبناء قاعدة لما سيأتي لاحقاً من مواهب ومَلكات وقدرات، ومن هنا يكون الاستثمار في الثقافة هو استثمار في بناء الإنسان المبدع، الذي لا يكونُ مجرَّد رقمٍ على قوائم الفرقِ الرياضية، أو جسدٍ يقطع الملاعب طولاً وعرضاً، وإنما فرداً يُسهم في بناءِ وطنه في مختلفِ المجالات، فالثقافة ليست مقصورةً على خِدمةِ الأنشطة الرياضة، إذ الأخيرة جزءٌ مما تستهدفه الثقافة، إنما الهدف الأسمى هو تأسيس بُنى فكرية مُدركة للشباب تجعلهم مشاركين أينما كانوا وتوجَّهوا في صنعِ قرار مؤثر لرقي أوطانهم، ورخاءِ مجتمعاتهم.

و"الثقافة أولاً" تعني السدَّ المنيع، والحائط الرفيع ضدَّ الأفكار الهدَّامة، والمفاهيم الدخيلة، والأخلاقيات المعتلَّة، والسلوكات المختلَّة التي قد تجذبُ فئة الشباب إلى تبنيها أو ممارستها ظناً منهم أنَّها علامات على النضجِ، أو إشارات على الحرية، أو دلائل على التحضُّر ومواكبة العصرنة، بينما تتقصَّد هدم قيمهم، ومحاربةِ دينهم، وإذابة هوياتهم،  يقول الكاتب محمد مندور:"لا يمكن تشكيل شخصية الإنسان وإعادة بنائها بشكل صحيح دون فهم مصطلح الثقافة، وبالتالي إذا تمَّ تكوين ثقافة كل فرد طبقاً لمفهومها الشامل بشكل صحيح ستكون هي حائط الصد ضد التطرف والإلحاد والفوضى والسلوكيات الخاطئة".

ومن هنا يتطلب الاستثمار في الثقافة موازنات لا تقلُّ عن تلك التي تخصَّصُ للمشاريع المادية كالشوارع، والبنايات والجسور والمصانعِ وغيرها، فالإنسانُ هو الأساس الذي يُحْسِنُ إدارة الموارد، وقيادة التنمية إذا ما أُحْسِنَ صنعه، وأُجيدَ الاستثمار في تنمية وعيه، وترقية فكره، فالثقافة هي الخلق المستمر للذات كما يقول الراحل علي عزَّت بيجوفيتش، ما يعني أنها مستمرة الحركة أُفقياً وعمودياً في بناءِ شخصية الإنسان.

إن معرفة الرياضي للأهداف العُليا للرياضة التي يمارسها، وقيمتها الإنسانية، يجعله مُدركاً لمعنى ما يقومُ به، لهذا نسمع التبريرات العميقة للاعبين المحترفين لهزائمهم أو انتصاراتهم، فهم لا يلقون بالأخطاءِ على الحكَّام وظلمهم كما يحدث كثيراً في مجتمعاتنا، بل يتحدثون عن أدائهم أولاً ويحمِّلون أنفسهم الأخطاء قبل غيرهم، ويمتدحون الفريق المنافس قبل أن يمتدحوا أنفسهم، والوضع كذلك مع الجمهور الواعي الذي يُدرك الأهداف العليا للرياضات، وما تفعله من تقريب المجتمعات، بدل الاقتتال وتبادل الشتائم والكلمات النابية في الملاعب. وهذا هو أثرُ الثقافة التي يقول فيها الأديب الراحل نجيب محفوظ: "الثقافة أن تعرف نفسك، أن تعرف الناس، أن تعرف الأشياء والعلاقات، ونتيجةً لذلك ستحسن التصرف فيم يلمُّ بك من أطوار الحياة" وبهذا يستطيع الإنسان أن يُدرك ما له من واجبات وما عليه من حقوق، وينضبطُ في سلوكه، ويعي الأهداف التي عليه أن يترسَّمها، والطريق الذي يمضي فيه، وهذا ما يعنيه المفكر العربي طارق حِجي حين قال:"لا رؤية لمن لا ثقافة له".