أخلاق الاختلاف

 

فاطمة الحارثية

" الإنسانية هي ألا يتم التضحية بإنسان في سبيل غاية" ألبرت شفاينزر

نعلم جميعاً أنّه ليس كل ما نتعلمه قابل للتطبيق، وإن أدينا امتحاناً أو استلمنا شهادة معتمدة في تلك المعرفة أو ذاك العلم، ألا تعتقد أنَّه بمجرد أن انتهيت من قراءة تلك المُقدمة انتهت لحظة من حياتك؟ تدبر معي، كيف هلكت تلك اللحظة؟ وماذا أخذت منها؟ وهل اللحظات التي تمضيها كل يوم في تدبير أمور حياتك اليومية تعود إلى تقييمها وتتفكر فيها؟ وهل تُلاحظ وتلمس أثرها في حياتك وما يعود عليك من نفع أو سوء؟ الجميع يتحدَّثون بمثالية وعن أهمية استثمار وقتك، وتمَّ تأليف آلاف الكتب عن "الذات" مما يُدهشك استيعاب أنَّ ثمَّة شر على الأرض، يقوم القائمون، ينادون بالاختلاف ويُطالبون بالتميز وحين تفعل ذلك، يتم نبذك كغريب وحشي، إذاً لنتفق أنَّ مُعظم الشعارات هي حبر على الورق ويُمنع تطبيقها في الواقع.   

في معمعة الحياة وثناياها شكل كلٌ منِّا لنفسه معتقدات ومبادئ وفلسفة، آمن بما يراه هو خيرا، ورفض ما اعتقد أنه شرا، ليُمثله ويقتات منه في رحلة حياته الاجتماعية والعملية والدينية، والغالب منِّا إن لم يكن جميعنا لا يقبلون بتدخل أطراف تناقض مُعتقداتهم، ولا حتى التعامل مع من يختلف عنهم وإن ادعوا غير ذلك، ولنحاول معاً أن نجزم أن ما نراه صواباً هو الصواب بالفعل، وما نراه شرا هو الشر حقيقة، لحظة عزيزي المتلقي، ألا تعتقد معي أن هذا الجزم يُقال عنه "تعصب" فلا شر مطلق ولا خير مطلق، ولكل تلك الأفعال والمعتقدات، قصة نراها وحقيقة لا ندركها، قد تُقلب موازين مبادئنا وفلسفتنا بكل سهولة؛ في عالم الأعمال مثلاً، قد يتم إصدار قرار سليم بناءً على ظروف محيطة، إن اختلفت تلك الظروف، قد يتحول القرار السليم إلى جريمة بشعة، إذا لنحترم الاختلاف لأنه هو ما يُغذي هويتنا المجتمعية من جذوة الفردية، ووجب الإدراك أيضاً أنَّ الاحترام هنا لا يُعتبر قبولا أو تسليما.

الكذب قرار، التنافس قرار، التعاون قرار، التقدير قرار، الخنوع قرار، الرضوخ قرار المُقاومة قرار، وحتى الخيانة التي يسعى إليها صاحبها في علاقاته الإنسانية والروحية أيضاً قرار، إنِّه المطلق والنسبي الذي يصنع دفء العلاقات وضجيجها، ويُوجد الخلافات والصداقات، عند فهم وتقدير أبعادها، "تذكر أنَّ وقتك محدود، فلا تعش في حياة شخص آخر ولا تجعل ضجيج الآخرين يحجب صوتك الداخلي" ستيف جوبز.  للتسلط أشكال مُختلفة وطرق عديدة قد تكون مباشرة وقد تكون غير ذلك، البعض قد يصنف "التسلط" تحت مظلة التنمر، فمحاولة سلب إرادة الآخرين وفرض رغباتك ومعتقداتك عليهم، هو نوع من الطمس الإنساني، أو محاولة أن تجعلهم يعتنقون فكرك، ومجانبة محاسبة الآخرين افتراضاً أنه حق من حقوقك أو إطلاق الأحكام ظنا أنه رأي.

 

هناك من يُحب الاستعراض ولفت الأنظار، وغالباً في جموع الحضور نراه يود أن يكون بؤرة الاهتمام، وآخرون لا يحبون الضوضاء، ولا الضجيج ولا يُزاحمون حياة فانية، في حكمة منهم أنَّ التقدير الحقيقي لقيمة الحياة، هو باحترام الذات، وصونها عن ألسنة الناس وتنمرهم، فمن يحترم تلك الاختلافات فعلاً وليس ادعاء؟

قالت: أنا جُل اهتمامي هو أن أنهي عملي بهدوء.

فعلت: صنعت صخب وضجيج، أهانت وكذبت وتنمرت لتصل لمبتغاها.

قال: أنا إنسان طموح آمن بالعمل الجماعي وواجب مكافأة الاجتهاد 

فعل: كذب، تسلط، استغل وصعد على أكتاف وجهود غيره.

الاختلاف ليس بالضرورة أن يكون بيني وبينك، أيضاً ثمة اختلاف وتناقض في كينونة الفرد ذاته، مثل الاختلاف بين سلوكه وأقواله، وبين فعله وقبول ردود فعله عندما يستجيب الآخرون لما يقوم به بطريقة لم يتوقعها، إن معرفة بواطن الذات والاشتغال عليها ليس بالأمر الهين، ما بال السعي إلى تقويم الاختلاف ليتناسب مع المبادئ العامة، والقبول بشكل عام، فتلك هي مجاهدة النفس، وفي الحقيقة ليس بالأمر اليسير الغور في أعماق النفس ومحاولة ترويضها أو حتى فهمها.

 

جسر...

ليس ثمة إنسان حُر، مُلزم بأن يخنع لنفسه أو لآراء الآخرين أو التسليم بما لا يؤمن به قبولا أو تقليدا.