المدرسة العُمانية الرقمية

المكرم/ أحمد بن عبدالله الحسني

 

التعليم إحدى أهم ثمار النهضة المباركة التي نفاخر بها صغارنا وكبارنا، ومظلته والحمدلله أينعت بالخير كل ربوع الوطن، فأضاءت أرضه وسماءه نوراً واعتدالاً وتسامحاً وسلاماً كعلامة اجتماعية عمانية خالصة.

غير أنَّ السرعة المدهشة التي يتطوَّر بها العالم تجعل منجز التعليم في تحدٍّ دائم لا يتوقف، فهو الأساس لكل ما يأتي بعده، وإن تأخر أكثر من اللازم اتسعت الفجوة وتباعدت المسافة فلم يعد تعليماً مُلهِماً يمكنه أن يواجه المستقبل.

وخلال الأيام القليلة المقبلة أمام معظم الدول مهمة رئيسية واحدة؛ وهي العودة إلى مسار تعليمي مناسب؛ حيث يكفي أن نُدرك أن الجائحة تسبَّبت في انقطاع أكثر من مليار و600 مليون طالب عن مقاعد الدراسة حول العالم، ونحن في السلطنة لدينا 634770 طالباً وطالبة في 1166 مدرسة حكومية يتولى مسؤولية وأمانة تعليمهم 56717 من أعضاء الهيئة التدريسية و11045 في الهيئة الإدارية، فضلاً عن مجاميع المدارس الخاصة والمدارس الدولية ومؤسسات التعليم العالي؛ لذلك معظم المجتمعات الجادة والفاعلة تعتبر هذا الأمر حاسماً لإنقاذ التعليم واستعادة ألقه وقوته وفاعليته.

ومن هذا المنطلق المهم، فالشكر والتقدير لكل ولي أمر، ولكل معلم ومعلمة وتربوي، يشحذون الهمم والطاقة الإيجابية في نفوس أبنائهم وبناتهم أجيالَ العلم والعمل؛ استعداداً وتجهيزاً بكل جدية لتحصيل العلم أيًّا كانت وسيلته: تقنية أم صفيَّة، فعلينا جميعاً واجب التعاون والتضامن لإنجاحه مهما كانت الصعوبات والضغوط، فضمان تعليم جيد من دون عيوب ونواقص كثيرة تهون في نهايتها كل المتاعب، فنحن قد زدنا الزرع قوةً وعنايةً ولم نُهمله أو نُضعفه، هكذا هو التعليم وعلاقته بالجيل، علاقة زرعٍ  يرعاه زارعٌ ماهر مخلص.

ومهما يكن عليه التوجُّه بين العودة إلى نظام التعليم التقليدي داخل الصفوف، والمواصلة بصفة مؤقتة في الاستنجاد بنظام التعليم عن بُعد، فإنه من واقع تجربة التعليم الإلكتروني التي مرت بها السلطنة كغيرها من دول العالم، فإن التعليم والعمل عن بُعد سيظلان تمرينيْن وطنييْن فاعليْن نختبر مدى جاهزيتهما باستمرار سدًّا للثغرات والنواقص؛ حيث بالفعل كانت حاضرة ومؤثرة فيما مضى من تجربة، وأصبحت واضحة ومعلومة للجميع طالما أن التحول الرقمي واقتصاد المعرفة هما ضمن أولويات أهداف الدولة، وأول من يستشعر ويستجيب لذلك هو التعليم -بجناحيه العام والعالي- حيث سيُواصل العالم وكثير من مرافقه الحكومية والخاصة تفضيل عقد لقاءات العمل وإدارة عمليات الأداء والإنتاج وإمداد الخدمات عن بُعد عبر الاتصال المرئي.

بعض التجارب حزمت خطام أفكارها بالحديث عن دمج سيستمر ويتواصل إلى المستقبل، وليس مؤقتاً، بين التعليم الطبيعي المباشر بنسبة 60% وبين التعليم الافتراضي بنسبة 40%؛ في إطار تفعيل منظومة التعلم الذكي؛ حيث استعدت منذ سنوات بسيناريوهات تحقق تعليمًا إلكترونيًّا فعّالاً محاطاً بالممكنات التربوية والموارد التعليمية، وهو ما ساعدها في تفعيل منظومتها واستيعابها بسرعة للآلاف من طلاب المدارس دون معوقات بارزة فرضتها تداعيات الجائحة، في الوقت الذي واجهت فيه دول أخرى صعوبات بالغة، أدت إلى عرقلة مسيرة التعلم لديها.

ووسط هذه المستجدات، تتشكل المدرسة العمانية الرقمية في إطار عام التعليم المدمج؛ حيث تتطور آفاق ومسارات التعليم كنظام جديد يتكيف مع الحاضر التقني الراهن ويستعد للمستقبل الرقمي المقبل سريعاً بكل نشاطه وأشكاله التي لا حدود لها، وهو نظام لم يعد خياراً لتنشئة وإعداد طالب بخصائص ومهارات القرن الحادي والعشرين، متسلحاً بإمكانيات معلمين ومناهج ومدارس وأنشطة وأدوات هذا القرن وما بعده وليس ما قبله.

المدرسة العُمانية الرقمية هي جسر ضروري نحو المستقبل القريب المعروف سلفاً واقعه التقني المتقدم جدًّا، وما دمنا مقبلين -بمشيئة الله تعالى وتوفيقه- خلال العشرين سنة المقبلة على رؤية جديدة (عُمان 2040)، فتحديث التعليم وتصميم أُطره ومكوناته الجديدة يأتي في مقدمة السلّم، إذا أردنا بناء مخرجات قادرة على مواكبة تلك الرؤية والإسهام فيها بكل فاعلية.

المدرسه العمانية الرقمية لا تعني تعليمًا منزليًّا عن بُعد، وإنما:

* مدارس تختلف من حيث التصميم والبناء والموارد التعليمية فيها؛ لتكون هي مدراس العشرين أو الخمسين سنه المقبلة؛ فلا ضرورة للمزيد من تصاميم المدارس التقليدية واستبدالها بنموذج ومكوِّن المدارس الرقمية التفاعلية أو النصف رقمية.

* إفساح المجال لإطلاق سلسلة من مدارس عمان للعلوم والتكنولوجيا (STEM) التي يوجد منها حالياً بشكل جزئي ومحدود في بعض المدارس الحكومية، وهي سلسلة تعمل بنظام التعليم الرقمي الحديث الذي يُعنى بتكامل مناهج العلوم والرياضيات مع الهندسة والتقنية ودمجها في المنهج التعليمي والحصة العلمية الصفّية، إذا كنا نريد خلال العشرين سنه المقبلة إيجاد دفعة جديدة من العلماء والباحثين والمخترعين والمبتكرين والمفكرين وتنمية الاقتصاد الرقمي القائم على التقنيات المتقدمة، حيث الإقبال على هذه النوعية من المدارس الحكومية المميزة سيفوق التوقعات.

* الإسراع في تحديث المناهج بالمحتوى الذي يدمج المعرفة بالمهارة؛ فامتلاك المهارات هو من أهم أسس المجتمعات الناجحة والمنتجة؛ فما الفائدة من معرفة وتعليم لا يعرف حاملها كيف يوظفها ويستثمر مهاراته وأدواته وقدراته فيها.

* المدرسة الرقمية يركز التعليم فيها بجرعات أكبر على الاقتصاد والابتكار وعلوم وتقنيات العصر لتهيئة الأجيال؛ فهي مرصد حقيقي للابتكار الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتكنولوجي.

* التعليم والتحصيل العلمي فيها يرتبط أكثر بواقع الحياة التي يعيشها الفرد والمجتمع وبأجندة الدولة وقيمها ونظامها الأساسي وعمقها الحضاري ونهضتها العصرية الحديثة ومشاريعها وقدراتها الإستراتيجية وتطلعاتها.

* تؤسِّس لحوكمة التعليم الرقمي، فكما توجد خدمات ومنتجات كثيرة بضمانات ومواصفات ومعايير إدارية وفنية وقانونية، فإن التعليم هو أهم قطاع يتطلب أن تتوافر له مواصفة قياسية عمانية لضمان جودته وحوكمته وتخصيص آلية متابعة ذكية له تكافح ما قد يعتريه من نقاط ضعف وترتقي به.

* تُعزِّز التعليم الرقمي التشاركي الذي يتم بناؤه من خلال الشراكات الفعالة، وتوثيق التعاون مع دول ومؤسسات متقدمة علميًّا لتعزيز الخبرات والاستثمار في التعليم؛ ومن ضمنها: المبادرة العالمية لمنظمة اليونسكو حول مستقبل التعليم حتى العام 2050.

* إطلاق العنان لبرامج تخصصيه لجيل نوعي من المعلمين والمعلمات لتتخرَّج على يديهم موارد بشرية ذات مهارات تعليم ووظائف تحمل بالفعل سمات قرن العلوم والتقنيات والذكاء الاقتصادي اللامع.

تعليق عبر الفيس بوك