"فورين بوليسي": طوكيو تتقطع بها السبل بين أمريكا الحليفة والصين الشريك التجاري الكبير

استقالة شينزو آبي تترك اليابان أمام مستقبل غامض وبوادر حنين للماضي

ترجمة - رنا عبدالحكيم

مع إعلان شينزو آبي استقالته من رئاسة وزراء اليابان، يوم الجمعة الماضي، تنتهي بذلك سلسلة غير مسبوقة من المكاسب القوية في ثالث أكبر اقتصاد في العالم وعلاقة كانت بعيدة المنال مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبناء قوة دفاع أقوى في مواجهة الصين القوية والحازمة بشكل متزايد.

وفي حين أنَّ مُعظم القادة يروجون لإنجازاتهم، تحدَّث آبي الحزين والعاطفي أحيانًا عما تركه دون تغيير. وقال: "أعتذر من كل قلبي عن اضطراري لترك الوظيفة وسط جائحة فيروس كورونا، بينما لا تزال العديد من السياسات في مُنتصف الطريق نحو التحقيق". ووفقا لتقرير موسع نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية، فاستقالة آبي المفاجئة، والتي فاجأت أيضا المقربين منه، ترسم مستقبلاً تحيط به الشكوك، لاسيما لبلد تقطَّعت به السبل وسط عداء متزايد بين الولايات المتحدة شريكتها وحليفتها، والصين أكبر شريك تجاري لها.

وقال مارتن شولز كبير الاقتصاديين في فوجيتسو، وهي مجموعة تكنولوجيا المعلومات اليابانية: "آبي بالتأكيد يترك فجوة كبيرة. فعلى الصعيد المحلي، لا يوجد أتباع في الوقت الحالي لشعبيته الشعبية القائمة على الاستقرار". وأضاف: "وعلى الصعيد الدولي، يصعب تقليد فن تحسين العلاقات مع الصين والولايات المتحدة في آن واحد وتحقيق التوازن بينها".

ومع ذلك، وعلى الرغم من طول عمره في المنصب، أكثر من 7 سنوات هي الأطول على الإطلاق لرئيس وزراء ياباني، لم يكن آبي شخصية ذات شعبية خاصة في اليابان. وقال معارضوه إنه كان قوميًّا منغلقًا على نفسه، ولم يقبل أبدًا اعتذارات اليابان العديدة بشأن الحرب العالمية الثانية، وأظهرت استطلاعات الرأي أن السبب الرئيسي لاستمرار شعبيته هو غياب مرشح منافس. ولا تزال هذه المشكلة قائمة: فمن يأتي بعده؟!

وكان رحيل آبي مفاجئًا، بسبب إضعاف الدعم العام لإجراءات الحكومة لمواجهة فيروس كورونا، وجاء القرار بسبب مشكلاته الصحية مع عودة التهاب القولون التقرحي. وتسبب هذا الظرف في اختصار فترة ولاية آبي الأولى أيضًا من 2006 إلى 2007. وكانت عودته في العام 2012 ليصبح أطول رئيس وزراء في اليابان على الإطلاق، بفضل الأدوية الجديدة التي أبقت حالته تحت السيطرة، لكن آبي قال في مؤتمره الصحفي إنَّ المشاكل عادت حيث كان يعمل يوميًّا تقريبًا خلال فصلي الربيع والصيف للتعامل مع تفشي كوفيد 19. ومع ذلك، أظهر الجمهور القليل من الاهتمام لجهوده. وأظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن 58% من الذين شملهم الاستطلاع غير راضين عن برنامج الحكومة، والذي بدا وكأنه يتأرجح بين عمليات الإغلاق غير الإلزامية والجهود التي بُذلت مؤخرًا لتشجيع السفر داخل اليابان لمساعدة الاقتصادات الريفية التي تضررت بشدة من الانكماش الاقتصادي.

لكن من السهل رؤية نتيجة الاستطلاع على أنه نكران للجميل بالنظر إلى حقيقة أن اليابان نجت من أسوأ تفشٍ للمرض. وكانت اليابان من بين أوائل الدول التي أصيبت بالفيروس، بما في ذلك انتشار الفيروس على ظهر إحدى السفن، وهو ما استحوذ على اهتمام وسائل الإعلام العالمية؛ حيث أصيب 712 راكبًا على متنها و13 حالة وفاة. وتجنبت اليابان الإغلاق الشامل، حيث برهنت معدلات الإصابة المنخفضة السلوك الياباني الملتزم بارتداء الكمامات وتحقيق التباعد الاجتماعي، وليس الإجراءات الحكومية.

وفي محاولة للرد على أن الإجراءات الحكومية لم تنجح في كبح الوباء، أمضى آبي معظم مؤتمره الصحفي يتحدث عن تقدم الحكومة في مكافحة كوفيد 19. وفي إشارة إلى خريطة طريق حكومية في الخريف المقبل، حيث يتوقع ارتفاع الحالات مرة أخرى، قال آبي إن اليابان يمكن أن تحقق الهدفين المزدوجين المتمثلين في إبقاء الفيروس تحت السيطرة مع السماح للاقتصاد بالبدء في النمو مرة أخرى.

وعندما تولى آبي السلطة في العام 2012، كان الاقتصاد الياباني يتأرجح منذ أكثر من 20 عامًا منذ انهيار النمو المرتفع لاقتصاد الفقاعة في العام 1990، ولا يبدو أنَّ هناك احتمالات لتحقيق أي تحسن اقتصادي. وحتى مع تراجع النمو الاقتصادي، ارتفعت قيمة الين الياباني فيما وصفه المحللون الماليون بتأثير "الملاذ الآمن". وأدى هذا بدوره إلى تفاقم توقعات التجارة الخارجية، وهي جزء أساسي من القاعدة الصناعية للبلاد، خاصة في مجال السيارات. وعبَّر آبي في تلك الفترة عن ثقته في قدرته على تغيير الأمور، معلناً أن سياساته الاقتصادية ستخرج من التدريج الذي كان يعني بطء وتيرة التغيير غير القادر على مواكبة الاقتصاد العالمي سريع التغيُر.

لكنَّ انتصار آبي الواضح كان في تعامله الدقيق مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، والتحوط من أي رهانات على رئاسة هيلاري كلينتون من خلال التواصل مع دونالد ترامب قبل الانتخابات. وأثبتت هذه الخطوة بالطبع أنها خطوة حكيمة، وكان آبي أول زعيم عالمي يلتقي بالرئيس المنتخب وقتذاك. وفي عالم "أمريكا أولاً"، تحقق أكبر نجاح لآبي في مجال التجارة الدولية.

ولطالما عُرفت اليابان كدولة حمائية، ومثل الصين اليوم، عززت تقليديًا صادراتها مع اتخاذ تدابير مختلفة لضمان نجاح العلامات التجارية المحلية في الداخل. ومع ذلك، فتح آبي بوابات الاقتصاد على مصراعيها، حتى في مجال الزراعة، التي تعد تقليديا واحدة من أكثر المناطق المحمية، كما يتضح من رسوم تصل إلى 788% على الأرز المستورد.

وعندما أدارت الولايات المتحدة ظهرها للشراكة عبر المحيط الهادئ، والتي يمكن القول إنها أكبر فشل لترامب فيما يتعلق باحتواء الصين، كان آبي هو الذي تمكن- رغم كل الصعاب- من إنقاذ الاتفاقية. ومع غياب القيادة الأمريكية، تمكن آبي من الجمع بين البلدان الأخرى، وإنشاء منطقة تجارة حرة تضم 11 دولة تتجاوز نطاق التعريفات التجارية التقليدية لتشمل مجالات مثل حقوق الملكية الفكرية، وحقوق العمال والبيئة. ولم يتوقف عند هذا الحد؛ حيث تحرك لإنهاء مجموعة تبدو لا نهاية لها من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لإنشاء أكبر اتفاقية للتجارة الحرة في العالم.

ومع رحيل آبي، يتحول الاهتمام بالطبع إلى خليفته، وبالنظر إلى الدور المهيمن لحزبه الديمقراطي الليبرالي، سيأتي القرار من اختيارهم لقائد جديد للحزب. وستكون التكتلات الحزبية -وليس الناخبين- هي من يحدد الزعيم القادم للبلاد. ويمثل المرشحون المحتملون مجموعة من الأثرياء في المستويات العليا للحزب. وقد ينتهي الأمر بالبلد بالنظر إلى الوراء بحنين إلى زعيم يحبه القليل من الشعب، لكنه كان قادرًا على أن يُظهر للعالم اليابان التي كانت نموذجًا للعقلانية في وقت الخلل الوظيفي العالمي.

تعليق عبر الفيس بوك