"فلسفة الحياد العماني".. إجابات الماضي عن أسئلة المستقبل

عرض - ناصر أبو عون

صَدَر كتابُ "فلسفة الحياد العُماني.. إجابات الماضي عن أسئلة المستقبل"، عن مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر، في يوليو 2020، للكاتب هيثم الغيتاوي، وعدد صفحاته 430 صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من 6 أبواب ومائة عنوان رئيسي وفرعي؛ ويقدِّم صورة بانورامية تمزجُ بين الماضي ونقطة انطلاق النهضة العُمانية المعاصرة في بداية سبعينيات القرن العشرين، وتمتد المسيرة لخمسين عامًا، لتعرج على الموجة الثانية من النهضة في "العهد السعيد" لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه.

14.jpg
 

ويسلِّط الكتابُ الضوءَ على مرحلة الانتقال السلس للسلطة بعد وفاة المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- وتولِّي حَضْرَة صَاحِب الجَلَالَة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم -أبقاه الله- مقاليد الحكم؛ وهي علامة مُضِيئة، ونقطة محورية ومرحلة تحوُّل مفصلية وإن كانت دقائق معدودات في تاريخ عُمان الحضاري، إلا أنها أكدت على عُمق وتجذِّر مُؤسسة الحكم في عُمان واستنادها لتراث من التقاليد في إدارة نظام الحكم لا تهزه العواصف، ولا تنال منه المتغيرات الإقليمية، ولا يخضع لتجاذبات واستقطابات السياسة العالمية؛ فقبل نحو أربعة عشر عاما قال السلطان قابوس -في حوار صحفي لجريدة السياسة الكويتية: "إنَّ تاريخ الأسرة الحاكمة في عُمان يسجل لها أنها انتخبت سلطانا ذا ميول حيادية؛ ومن يومها اتسم الحكم بأنه للكل وحول الكل. هذا هو سر المعادلة".

وانطلاقا من العتبة الأولى للكتاب؛ وهي الغلاف/ المدخل الرئيس لقراءة الكتاب، يمكننا قراءة العديد من الدَّوال:

أولا: جمع الغلاف تلميحا لا تصريحا الألوان الثلاثة للعلم العماني (الأحمر والأخضر على خلفية بيضاء) للدلالة على تماسك النسيج الاجتماعي، ومتانة اللُّحْمَة الوطنية، والاصطفاف والالتفاف حول مؤسسة الحكم، والتمسك بالنظام الأساسي للدولة، والعروة الوثقى التي لا انفصام لها.

ثانيا: جاءت لوحة الغلاف على قسمين؛ دمج القسم العلوي بين صورتين متحاورتين الأولى بالأبيض والأسود (تجمع السلطان قابوس وصاحب السمو السيد طارق بن تيمور وسعادة حفيظ الغساني معلّم السلطان قابوس في صغره) وهي دالة إشارية على الموجة الأولى من النهضة؛ واستدعاء لعصر تأسيس دولة عمان الحديثة. بينما الصورة الأخرى عصرية وبالألوان الطبيعية للسلطان هيثم بن طارق؛ وفيها دلالة رمزية وإشارة للموجة الثانية من النهضة وبشارة للعهد السعيد.

ثالثا: "عمان بين ابتسامتين"؛ أو "الحوار الصامت باطنا والمعلوم ظاهرا"؛ فالتعبير بالصورة أغنى عن الكثير من كلمات اللغة المكتوبة والمنطوقة؛ فجاء التعبير مباشرا ودلاليا؛ والصورة حوار بين (سُلطانين).. هكذا قصد مصمم الغلاف؛ مباركة وتسليم دفة القيادة من السلطان قابوس إلى السلطان هيثم متضمنةً استبشارا واطمئنانا بعهد سعيد ومستقبل جديد سيتحقق على هذه الأرض الطيبة.

فبين العامين 1971 و2020؛ مفارقة فريدة تجمع بين السلطان قابوس والسلطان هيثم؛ ووالده صاحب السمو السيد طارق بن تيمور؛ الذي كان أول رئيس للوزراء في عهد النهضة؛ وبهذه الصفة نال شرف رفع علم السلطنة لأول مرة في مقر الأمم المتحدة بعد قبول السلطنة عضوا بالمنظمة في السابع من أكتوبر 1971، وألقى كلمة السلطنة -نيابة عن السلطان قابوس- وفيها قال عن الأمم المتحدة: "رغم أننا بلد صغير؛ لكننا سنسعى بأفضل قدراتنا إلى تحقيق مبادئ الأمم المتحدة"، منبها إلى أنَّ "فعالية الأمم المتحدة تقلّصت إلى الحد الأدنى؛ في ظل رفض بعض الدول الامتثال لقراراتها؛ وهنا يكمن الخطر الأعظم على هذه المنظمة". وبعد ذلك بنحو 49 عاما؛ وقف نجل صاحب السمو السيد طارق بن تيمور؛ ليؤكد في أول خطاب له خلفا للسلطان قابوس التزام السلطنة بدورها كعضو فاعل في منظمة الأمم المتحدة.

وللدلالة على أنَّ "الحياد العماني" -وهو العنوان الرئيس لهذا الكتاب- صار قدر عمان وبصمتها في محيطها الإقليمي والدولي؛ ما أكده قول جلالة السلطان هيثم بن طارق: "سوف نترسم خطى السلطان الراحل؛ مؤكدين على الثوابت التي اختطها لسياسة بلادنا الخارجية"؛ وبالعودة إلى خطابات السلطان قابوس -طيّب الله ثراه- حرصه على تأكيد المعنى ذاته؛ وكأنه يوصي خليفته وشعبه بذلك.

ويركِّز الكتاب في مضامينه وأبوابه جميعها على الإجابة عن سؤال واحد محوري ورئيس؛ وهو: كيف نجحت عُمان في بلورة فلسفتها الخاصة للحياد على مدار نصف قرن؟ ومحاولة استشراف التوجه العماني في مجال السياسة الخارجية مستقبلا في ظل التحديات الإقليمية والعالمية؛ المتغيرة والمتزايدة بطبيعتها.

ويستعرضُ الكتاب العديدَ من المواقف التاريخية؛ التي تؤكد أنَّ ما جاء في خطابات وتصريحات السلطان الراحل وخلفه تتطابق تماما مع واقع السياسة الخارجية العمانية وثوابتها؛ التي صارت "أسلوب حياة" للشعب العماني داخليا وخارجيا.

ويُشير الكتاب إلى بدهيَّة في السياسة الدولية؛ وهي أنَّ معظم بلدان العالم ترفع شعارات "عدم الانحياز" و"الحياد الإيجابي"؛ بينما قليلون من جَعَلُوها أمرا واقعا وأسلوب حياة؛ وفي مقدمة هؤلاء أبرزت التجربة العمانية الرائدة، فعبرت بسلام، وتفادت الأفخاخ الدولية، ونصف قرن خير شاهد -ولا يزال- على أحداث قلبت العالم يمينا ويسارا؛ بينما بقيت السلطنة واحة آمنة مستقرة؛ سلطانها مشغول ببناء البشر والحجر، وبقيت عمان ثابتة على مبادئها في إدارة السياسة الخارجية؛ غير خاضعة لـ"غويات الزعامة" أو متورطة في صراعات ترى أن حلها ممكن على طاولة المفاوضات؛ لا في ساحة الحروب.

وبمطالعة سائر القضايا الدولية بوجه عام، وقضايا منطقة الشرق الأوسط، نجد سلطنة عمان تلتزم سياسة الحياد الإيجابي، فتقبل دور "الوسيط النزيه" للمشاركة في حلحلة الأزمة دون أن تتدخل في النزاعات بين جيرانها، أو النزاعات الخارجية الدولية، عملاً بقاعدة "لا ضرر ولا ضِرار"، وتطبيقا لمقولة السلطان قابوس الشهيرة: "لا نتدخل في شؤون الآخرين ولا نقبل التدخل في شؤوننا"، وتحتفظ بعلاقات صداقة مع جميع شركاء الأسرة الدولية.

ولهذا؛ يحق لعُمان أن تطمئن على حيادها؛ ويحق للعالم الذي طرح أسئلته القلقة عن مستقبل التوجهات العمانية في هذا الشأن أن يطمئن هو أيضا، عندما استمع لخطاب السلطان هيثم بن طارق في أول ساعة من حكمه يقول: "سنبني علاقاتنا مع جميع دول العالم على تراث عظيم خلّفه لنا السلطان الراحل - عليه رحمة الله ومغفرته".

تعليق عبر الفيس بوك