عبدالنبي الشعلة
في العام 1848م الذي تُوفِّي فيه -بمدينة الإسكندرية- "مؤسس مصر الحديثة" محمد علي باشا، ولد في مدينة الرفاع بالبحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، الذي دامت مُدة حكمه ونجله الشيخ حمد للبحرين 72 سنة من 1869 حتى 1942؛ فقد ظل الشيخ عيسى حاكما منذ العام 1869 حتى وفاته في 1932، إلا أنَّ السلطة الفعلية انتقلت إلى يد نجله الشيخ حمد طيلة التسع سنوات الأخيرة من حكمه بصفته نائب الحاكم، وحكم الشيخ حمد البلاد بصفته حاكما حتى وفاته في العام 1942.
وقد عاصرا خلال فترة حكميهما تطورات وأحداثًا مفصلية جسامًا كانت قد شهدتها المنطقة والعالم بأسره؛ منها: افتتاح قناة السويس، وقيام الثورة العربية الكبرى ضد الحكم العثماني بقيادة الشريف حسين بن علي، ونشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وانهيار الإمبراطورية العثمانية في تركيا، وسقوط الدولة القاجارية في إيران، وتولِّي كمال أتاتورك ورضا شاه السلطة بمشروعيهما التحديثي لبلديهما، والثورة العرابية في مصر، وتوحيد المملكة العربية السعودية بقيادة الملك عبدالعزيز آل سعود، وارتفاع صوت غاندي مناديًا بالحرية والاستقلال في الهند، وتولي الملك فيصل الأول حكم العراق... وغيرها من التطورات والأحداث المصيرية.
كما أنَّ عهد الشيخ عيسى بن علي ونجله الشيخ حمد شهد بزوغ أفكار رواد وأئمة ودعاة التجديد والإصلاح والتنوير في عصر النهضة العربية والإسلامية؛ الذي بدأ في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والذين كان من أبرزهم: الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، ورفاعة رافع الطهطاوي، وعبدالرحمن الكواكبي، ورشيد رضا، وقاسم أمين، وعز الدين القسام، وطه حسين، وحافظ إبراهيم... وغيرهم، ممَّن نادوا بإحداث تغييرات في المجتمع، ونقل الأمة من حالة الجهل والتخلف والتقوقع إلى حالة تمكنها من تحقيق تقدم حضاري عن طريق إعلاء شأن العقل والارتقاء بمنزلته، والسعي لطلب المعرفة واتباع المناهج والأساليب العلمية، ولقد كان الدكتور طه حسين صريحًا واضحًا عندما قال: "إنّ سبيل النهضة واضحة مستقيمة ليس فيها عِوَج ولا التواء، وهي أن نسير سيرةَ الأوروبّيّين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكونَ لهم شركاء في الحضارة".
إلا أنَّ جهود هؤلاء الرواد كانت فردية تفتقد إلى غطاء تنظيمي وإلى قاعدة فلسفية جديدة، ولم تتبلور في شكل تيار فكري، واتسمت، في أغلبها، بالتردد وبالتهيب من الدعوة إلى الانتقال والانقطاع عن الموروث، بل إن بعضهم ظل يحرص على التمسُّك والاتصال بذلك الموروث والارتباط به لكونه، كما قالوا؛ المنبع والأصل للنهضة والتنوير لقرون سابقة قبل أن تفوق أوروبا من سباتها وتستفيد منه، وبهذا الانطباع تجنب معظم أولائك الرواد ملامسة الواقع فظل مشروعهم النهضوي في أغلبه مشدودًا إلى الجذور إلى أن تم إجهاضه في صيف العام 1952.
ونعود للشيخيْن عيسى بن علي ونجله، اللذيْن أرسيا نظام حكمهما على الأسس الصحيحة للدين الإسلامي، وعلى احترام مبادئه ورجاله، وقبول الاختلاف بين مدارسه، لكنهما لم يحتاجا إلى استخدام الدين لتأكيد شرعية سلطتهما، ولم يحاولا امتطاءه لتحقيق أغراض سياسية أو دنيوية، ولم يشجعا على إقحام الدين في الشؤون السياسية أو الأمور العامة للدولة، ولم يَجِدا في أي تحرك نحو النهوض والتطور مناقضًا للدين وتعاليمه.
ومن مُنطلق قبول واحترام الآخر، فقد تضاعفَ في عهدهما عدد الحسينيات وعدد المساجد للطائفتين السنية والشيعية؛ وذلك ترسيخًا لمبدأ حرية العبادة وممارسة الحقوق والطقوس الدينية، وعندما تمَّ في عهدهما في البحرين افتتاح أول كنيس مسيحي وآخر يهودي وأول معبد هندوسي في المنطقة، لم يجدا في ذلك غضاضة أو أي تهديد للإسلام أو تعاليمه أو قيم المجتمع، بل وجدا فيه تأكيدًا على الثقة بالنفس والعقيدة، وعلى روح التسامح والتعايش والانفتاح، التي يحض عليها الإسلام، والتي هي من أهم متطلبات الحداثة.
وحرصًا منهما على صون سيادة الدولة وسلامتها، وللاستفادة من الخبرات والتجارب الأوروبية، فقد أبرما اتفاقيات للحماية والتعاون مع بريطانيا التي كانت وقتها أكبر قوة، وكانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وقد اعتبرت تلك الاتفاقيات من أفضل الاتفاقيات المماثلة في ذلك الوقت وفي تلك الظروف، واستكمالًا وتفعيلًا لتلك الاتفاقيات، فقد استعانا بالخبرات الأوروبية للشروع في الانتقال من النظام التقليدي للحكم إلى نظام الدولة الحديثة بتطوير بُنى وهياكل الإدارة الحديثة للبلاد، بما في ذلك توظيف البريطاني شارلز بلغريف كمستشار مقيم ومتفرغ لتنفيذ المشروع والمساعدة على وضع اللبنات الأولى للتحديث.
ومن هذه القناعات، ومع تواضع الإمكانيات المادية أو عدمها، فقد انطلقا في تهيئة الأرضية وبذر بذور الحداثة بتوجيه اهتمامهما نحو توفير خدمات الرعاية الصحية والطبية الحديثة، وإرساء قواعد التعليم الحديث بفتح المدارس للبنين والبنات، وتم كذلك إصدار الصحف وافتتاح دور السينما، إلى جانب الجمعيات والأندية الثقافية كأدوات لنشر الثقافة والمعرفة وقنوات لاستقطاب مختلف المنتجات الثقافية والأدبية والفنية. وفي الوقت نفسه، فقد شكلت هذه الأندية والجمعيات النواة لنمو وتطور مؤسسات المجتمع المدني؛ وهي من أهم ركائز التنمية الاجتماعية والسياسية وتسلق العتبات الأساسية للحداثة.
وعمل الشيخ عيسى ونجله الشيخ حمد على تعزيز موقع البحرين الاقتصادي كمركز لصناعة اللؤلؤ في المنطقة، وكانا أيضًا سبَّاقين في استشعار التحديات والفرص الاقتصادية، وإدراك الحاجة لتوفير الموارد المالية اللازمة لعملية التحديث والتطوير والبناء؛ فكانت المباحثات مع الشركات النفطية التي أفضت إلى اكتشاف النفط واستخراجه ضمن اتفاقيات لم يتمكن الآخرون من التوصل إلى أفضل منها في ذلك الوقت، وقد تزامن اكتشاف واستخراج النفط في البحرين في العام 1932 مع انهيار السوق العالمي للؤلؤ.
وحرص خلفهما الشيخ سلمان بن حمد -الذي تسلم الحكم في العام 1942 حتى العام 1961- على تعزيز خُطى وجهود سلفيْه، وتثبيت وترسيخ البنى والقواعد التنموية والتحديثية التي شيدت، والتي من شأنها إذا استمرت أن تؤدي بالبلاد إلى طريق الحداثة، إلا أنه وبعد 9 سنوات من توليه الحكم، وبالتحديد في منتصف العام 1952 تعرضت التجربة أو المحاولة في البحرين وغيرها من الدول العربية، بما في ذلك مصر، إلى انحراف أو انتكاسة قاسية نتيجة لسلسلة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها بعض الدول العربية، والتي تم فيها استباحة قيم الحداثة وأسسها، وتغول المد والفكر القومي المناهض للاستعمار الأوروبي؛ بحيث تحولت تلك المناهَضَة إلى حالة عداء تطال أفكار ومنجزات الحداثة الأوروبية، وصارت الدول الأوروبية والأنظمة الغربية وكل أفكارها أعداء لنا يهددون أصالتنا وقيمنا وعقائدنا؛ فاختلت الأولويات، وتحولت الأفكار والمفاهيم التنويرية البراغماتية لمشروع النهضة والإصلاح العربي إلى الشعارات والمواجهات الأيديولوجية والمنازعات والسجالات بين الأفكار الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية والقومية والبعثية... وغيرها، وانشغلت الأمة في معارك طاحنة فيما بينها؛ ما أدى لانهزامهم شر هزيمة على يد دولة وليدة صغيرة في حرب 1967، وهو ما أدى بدوره إلى انبعاث واستحضار الإسلام السياسي وارتفاع شعار "الإسلام هو الحل"، واستثمار الرأسمال الديني في المنازعات على السلطة.
رحم الله الشيخ عيسى بن علي آل خليفة ونجله الشيخ حمد، وأسكنهما فسيح جناته.