مُنى بنت حمد البلوشية
العُزلة هي أن تبقى بعيدا وبمنأى عن الجميع، دون أن تختلط بأحد، لتشعر بالراحة والطمأنينة لذاتك، ولتنتصر على أفكار لطالما انتابتك وراودتك وتودُّ الخلاص منها، ولتدنو من ذاتك أكثر.
العُزلة هنا أتت اضطرارية، أتت ونحن مُرغمون عليها: حبًّا لوطننا، وحبًّا لوالدينا ولذواتنا ولمن حولنا، أتت ونحن لم نتوقعها بأنها ستتطول هكذا، وأن هذا الوباء الذي أتى هو من سيرغمنا وأرغمنا على أشياء لم نعتد عليها، رغم اعتيادنا لفترات من العزلة التي نفرضها على أنفسنا في لحظات نحتاجها نحن دون أن يفرضها علينا أحد آخر.
العُزلة أصبحتْ نافذة ننظر منها على المارة ليلا، ونرى من خلالها تلك الطرقات خالية بعدما كانت ممتلئة بالسيارات، خالية من أولئك الذين يُسمع لضحكاتهم وهم على حافة الطرقات، وممن يقضون أوقاتهم في رياضات شتى؛ حيث أصبحت أنوار الإضاءة فقط تُنير عَتمة الليل، كم هو جميل الهدوء الذي عمَّها بعد فرض الحظر الذي كُنا ننتظره منذ بداية الجائحة، وأجملها تلك الأُسر وهي تلتف حول بعضها تبعث الطمأنينة والاحتواء لبعضهم.
العُزلة وضعتْ عقولنا تُفكر أكثر، وأشغلتنا بما كنا نتمنى منذ فترات طويلة لأن نبدأ بأشياء كنا نتمناها وكأنها قيدتنا دون أن نعلم بأنَّ الوقت الذي مضي لن يعود، ولن تتكرر، فـ"كورونا" فرض عزلته علينا لنصبح أقوياء لنختبر قوتنا ومدى صبرنا.
إنَّنا نعتزل، واعتزلنا، وهذه العُزلة أنضجتنا وأيقظتنا أكثر من سبات كنا فيه، مما كنا نتوقعه، أنضجتنا لدرجة أننا بتنا نخاف على آبائنا وأمهاتنا أكثر مما نخاف على أنفسنا، كبرنا وأصبحنا آباء وأمهات لأبائنا وأمهاتنا، وبتنا نحذر أشد الحذر حفاظا على أرواحهم. العزلة أنضجتنا بعد كل هذه التحديات التي واجهتنا، والتي كادت توقفنا لكنها لم تستطع، أدركنا بعدها أننا نحن من يستطيع أن يشعل روح التحدي في ذاته دون أن نلجأ لغيرنا، وأن يدنا الأخرى هي التي تنهضنا وتصفق لنا.
العُزلة هنا ليست اختيارًا، لكنها لم توقفنا عما نودّ السعي له ولن تفعل ذلك، فهذه منحة مجانية واختبار لنكتشف معادن لأشياء كثيرة كنا غافلين عنها، عُزلة لنتعافى من أشياء كثيرة، لنعود لأنفسنا أولا وقبل كل شيء، ولنرفع من قدرها أكثر وأكثر دون قيود وتحرُّر من أوهام كانت بها.
فأصبحت عُزلتنا جميلة، نقضيها مع القمر وبين الشجر والطبيعة،والتأمل، وبين الكتب وأسرنا وأحبتِنا، فأصبحنا أصدقاء أكثر لبعض، نحكي أسرارنا، وننهض من كبوات كانت بنا، كم أنت جميلة أيَّتها العُزلة، منحتينا فرصا كثيرة لأشياء كثيرة.
