د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
استندتُ في المقال السابق إلى مقولة الفقيه الحنبلي الكبير ابن القيم بأن العدل هو مراد الله من الشريعة، فأي تشريع بشري يقيم العدل هو من شرع الله، للرد على دعاة "الحاكمية" قديمًا وحديثًا، القائلين إن البشر لا مدخل لهم في التشريع، المضيقين لمفهوم الشريعة على ما نطق به القرآن والسنة.
حاكمية "الخوارج" قديماً، أصحاب "لاحكم إلا لله" أنتجت تكفير المجتمع الإسلامي الأول واستحلال دماء صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقتلوا الإمام الراشدي علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، لأنه ارتضى "تحكيم البشر".
وحاكمية "المودودي" و"سيد قطب" في العصر الحديث، أفرزت تكفير المجتمعات الإسلامية المعاصرة، لأنها تتحاكم إلى تشريعات بشرية "الطاغوت" وخرجت عقولاً استحلت دماء البشر، فعاثت في الأرض فسادًا عريضًا (والله لا يحب المفسدين)، وما دفع كل هؤلاء إلى هذا المنزلق الخطر إلا ضيق عقل وسوء فهم لما أنزل الله تعالى، وغفلة عن مراميه ومقاصده العليا.
ولو أنصفوا لأدركوا أن إحقاق الحق وإقامة العدل ومنع التعديات وتأمين الناس على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وأعراضهم، أينما وجد، فهو شريعة الله.
عقوبة الردة:
الذين استنكروا التعديلات التشريعية السودانية لأنها ألغت عقوبة الردة وجرمت التكفير وقالوا: أتستبدلون بحكم الله حكم البشر؟! نسألهم: وهل قتل المرتد حكم الله؟!
هذا قرآننا يحكم فيما نحن مختلفون: القرآن الكريم مع حرية الاعتقاد بالمطلق (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وقد ذكر الردة في 200 آية، لم ترد فيها عقوبة دنيوية بل أخروية (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة).
أما من السنة: فقد ارتد كثيرون في عهده عليه الصلاة والسلام، فما عاقب إلا من التحق بمعسكر الأعداء وحارب المسلمين أو قتل مسلمًا، مثل ابن خطل ومقيس بن صبابة وأمر بقتل عبدالله بن أبي سرح كاتب الوحي، الذي ارتد وحارب المسلمين، وعفا عنه بشفاعة الصحابي عثمان بن عفان؛ بمعنى أن العقوبة كانت على القتال والمحاربة لا مجرد الردة.
أما عمدة القائلين بقتل المرتد، حديث "من بدل دينه فاقتلوه"، فليس على إطلاقه، بل يفسر على ضوء الحديث الآخر "لا يحل دم مسلم إلا في إحدى ثلاث: النفس بالنفس، الثيب الزاني، التارك لدينه المفارق للجماعة"، فهو لا يُقتل لمجرد ترك دينه، بل لمفارقته للمسلمين وانضمامه إلى معسكر الأعداء، وهذا ما كان حاصلًا في ذلك الوقت، فقد كان المرتد يفرُ من المدينة إلى مكة ويأتي محاربًا للمسلمين، أشبه بالخيانة العظمى للوطن في العصر الحديث.
أما محاربة أبي بكر للمرتدين:
فلأنهم أصبحوا محاربين للدولة الإسلامية، ولو تركهم أبو بكر ولم يبادرهم بالقتال، ويغزوهم في عقر دارهم، لانقضوا على المسلمين في المدينة، وقضوا على دولة الخلافة، فهؤلاء لم يرتدوا فحسب؛ بل تمردوا على سلطة الدولة، وخرجوا على الشرعية، وهددوا وحدة الأمة، فالقضية هنا قضية قبائل متمردة محاربة لا مرتدة فحسب.
ومن أجل هذه الأدلة وغيرها؛ ذهب طائفة من العلماء القدامى منهم إبراهيم النخعي وسفيان الثوري إلى مخالفة الجمهور في حكم قتل المرتد. وفِي العصر الحديث، أكثرية العلماء، منهم الإمام محمد عبده والشيخ محمود شلتوت (شيخ الأزهر سابقا) وأبوزهرة والترابي وغيرهم من الفقهاء المعاصرين إلى أن عقوبة الردة، سياسية بالدرجة الأولى، استغلتها السلطة السياسية عبر التاريخ الإسلامي، سلاحًا ضد المعارضين، بتهم المروق والزندقة لبواعث سياسية.
الإيمان والكفر قضية شخصية:
أخيرًا.. كل هذا يدفعنا إلى تأكيد القول إن الإيمان والكفر، قضية شخصية حسابها عند الله، وليست من قضايا النظام العام، ولذلك يجب أن تكون بمنأى عن تدخل السلطة، فالهداية من الله، والنصوص حاسمة في مخاطبتها للرسول "ليس عليك هداهم" و"فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، فلاسلطة لأحد على حرية المعتقد.
** عميد كلية الشريعة بجامعة قطر سابقًا