شرع الله وشرع البشر(1)

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **

 

من المفاهيم الخاطئة الشائعة لدى دارسي الشريعة، والقانون وبين عامة المُسلمين أن هناك تناقضاً بالمطلق بين شرع الله تعالى المُتمثل في القرآن والسنة، وما يشرعه المسلمون من قوانين وتشريعات لتنظيم مختلف شؤونهم الخاصة والعامة وتنظيم أمور مجتمعاتهم، وهذا فهم مغلوط للشريعة وللقانون معاً، نبه إليه الفقيه الحنبلي الكبير ابن القيم قبل 7 قرون، وألف كتابه القيم (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) لتصحيحه ورده.

ينتقد ابن القيم الفهم المغلوط للشريعة لدى طائفتين فيقول :

الأولى: (فرطت) وفهمت الشريعة فهماً ضيقاً ومتزمتاً، حين قالت: لا سياسة (تشريع بالمعنى المعاصر) إلا ما نطق به الشرع، وهذا الفهم جعل الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، فسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة، وعطلوا الشريعة، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع .

والثانية: (أفرطت) حين فهمت الشريعة فهماً سوغ من السياسات (التشريعات) ما ينافي الشريعة .

حكم الفقيه الحنبلي على الطائفتين بالتقصير في معرفة الشريعة، ومعرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر.

وانتهى إلى أنَّ السياسة العادلة (أي التشريع الذي يكون الناس فيه فعلاً أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد) هي من الشريعة، وليست مخالفة له، وحتى إن لم يضعها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا نزل بها وحي السماء  .

وبعد أن عرض مئات الوقائع التي صدرت فيها تشريعات اجتهادية (مما لا نص محدد فيها) هادفة إلى تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد وتدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بدءاً من عهد عمر رضي الله تعالى عنه إلى زمنه، خلص إلى تأكيد أن (العدل) هو مراد الله من التشريع، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه.

القانون جزء من الشريعة :

وبموجب هذا الفهم الرحب للشريعة، فأي تشريع بشري يُحقق هذا العدل، فهو من شرع الله، سميته قانونا وضعياً، أو حكماً قضائياً، أو أمراً إدارياً تنظيمياً أو إجراء تنفيذياً أو سياسياً، كان يجمعها قديماً اسم (السياسة الشرعية) .

كان هذا مُقدمة لإيضاح أنَّ مثل هذا الفهم الرحب المستوعب للشريعة ومقاصدها للفقيه الحنبلي الكبير ابن القيم، نفتقده اليوم لدى كثير من أتباعه ولدى عامة المُسلمين، إذ لا يزال الفهم الخاطئ للشريعة حتى اليوم سائداً وحاكماً لذهنيات كثيرة  تفتعل تناقضاً غير مبرر بين التشريعات الوضعية المقررة  لحقوق وحريات الإنسان في دولنا والشريعة الإسلامية، بحجة أنَّ الأولى شرع البشر والأخرى شرع الله تعالى، ولو أنصفوا لأدركوا أنه لا تناقض بين شرع الله وشرع البشر في كل مايصون حريات الإنسان وكرامته ويعصم دمه وعرضه وماله، وفِي كل تشريع بشري  يحقق الحق ويقيم العدل وينظم الشؤون العامة ويمنع التعديات ويحفظ الحقوق، فكل ذلك من شرع الله تعالى.

إلغاء مادة الردة:

مصداق ذلك أنَّ مجلس السيادة السوداني صادق مؤخرًا على حزمة تعديلات قانونية منها: إلغاء مادة (الردة) وتجريم التكفير وختان الإناث، وإلغاء عقوبات الجلد فيما عدا الجرائم الحدية والقصاص، والسماح لغير المُسلمين بتداول وشرب الخمور، والسماح للمرأة باصطحاب أطفالها في السفر دون موافقة الزوج. وهي تعديلات لمواد وضعت في عهد البشير أثارت انتقادات منظمات حقوقية دولية ومحلية.

هذه تعديلات تصب في مجال حماية حقوق الإنسان وكرامته، وهي أهم أهداف ومقاصد التشريع الإسلامي بالنص القرآني (ولقد كرمنا بني آدم) وتستحق الإشادة من نشطاء حقوق الإنسان والمثقفين عامة .

تغريدة أثارت جدلاً :

صديق مثقف وناشط حقوقي، غرد مشيداً بالتشريع السوداني حين استبدل بمادة الردة مادة تُجرِّم التكفير، وهي مادة كان يستغلها المحتسبون المتطفلون لرفع دعاوى التفريق بين الزوجين بتهمة ردة الزوج .

أثارت التغريدة مُغردين، قامت قيامتهم وأنهالوا تجريحاً في المعتقد، نم عن جهل مريع: جهل بمفهوم الشريعة السمحة، وجهل بقضية الردة، وجهل بمقاصد الشريعة في عصمة دم الإنسان، وجهل بآداب الحوار في الإسلام .

** عميد كلية الشريعة والقانون بقطر سابقاً