القيادة (3)

 

مؤسسة صناع القادة

 

تعرضنا للصناعة الجسدية والنفسية والروحية من خلال الطرح التاريخي لبعض الأمثلة التي جسدت هذا الإعداد للقائد المؤثر، والتي بقيت مؤثرة حتى يومنا هذا من خلال المواقف التي تسرد والقرارات التي تدرس لمثل هذه القيادات الكونية الخالدة.

لا يخفى على القائد الباحث أنه وإن حقق الصقل والبناء الجيد لذاته يبقى بحاجة لبناء وصناعة من حوله وهي الخطوة المُباشرة للقائد التي يظهر من خلالها جودة صناعته الذاتية بما سيمارسه على من حوله للظهور بمظهر القائد الفاعل المؤثر بالشكل الإيجابي المنشود.

لقد شاع في الآونة الأخيرة قيادة البناء والتغيير بالمناصب والتخويل القيادي المكتسب بالتنصيب على إدارة من الإدارات أو مجموعة من الأفراد، وهي ظاهرة صحية إذا ما تمَّ استغلالها كإطار إداري تنظيمي موصل إلى القيادة التكاملية بين الذات والآخر، إلا أن الاعتماد عليها وتسيير المهام وتحقيق الأهداف من خلالها لايصنع بلا شك قادة حقيقيين ولا يمكّنهم من صناعة وبناء الثقة اللازمة في من حولهم لولادة قادة في منهج الاستمرارية في البناء والتمكين، وهذا هو مفصل الاختلاف بين المدير والقائد من خلال إدارة دفة المؤسسة أو قيادتها، ونرى في الدارج أننا نقول (أدر المحرك) حيث إن التأثير المخول لنا هو إعطاء الإذن باشتعال المحرك ليقوم هو بالدوران والعمل حسب متطلبات القوة والطاقة مع إعطائه حق الوقود والتزييت وغيره ومراقبة أدائه..

إلا أننا نحتاج إلى (قيادة المركبة) ليكون الأمر بمثابة العلاقة بين القائد والمقود فهو يتعامل معها بالتوجيه ويتأكد من إمكاناتها ويقوم بتزويدها بما تحتاجه قبل أن تطلب ذلك ويحافظ عليها خارجيا وداخليا بل إن البعض يتعلق بها بشكل عاطفي كجزء من حياته اليومية، ولا يقتصر الأمر على أساسيات الإبقاء عليها من وقود وتزييت بل يتعداها إلى تنظيف وتزيين وتأمين..

بالرغم من أن المثال أعلاه هو لآلة شائعة الاستخدام إلا أنه أخذ منعطفا دراميا في التعامل والاهتمام، فكيف يتجاوز القائد تفاصيل من هم تحت قيادته أو من هو بصدد بنائهم وصناعتهم ليحملوا معه مشاعل القيادة والخلافة، لذا لا يصح أن يركن القائد إلى السلطة المخولة له لإدارة من حوله بل لابد أن يكللها ويتخللها بالقيادة بالمثل والقيادة بالعواطف وتجسير عرى الثقة والاطمئنان بينه وبين أفراده.

لذا يرى بعض المنظرين في أسس القيادة أنه مع المنصب لابد من توافر القبول والنجاح والتنمية والاستمرارية في المؤسسة ليمكن ظهور قيادة واعدة (جون سي ماكويل)، بالرغم من حقيقة ما ذكره السيد ماكويل إلا أنه انطلق من ذات العقدة التي بدأنا بها وهي لزوم وجود إطار المنصب، بينما صناع القادة يرون أن القائد الحقيقي هو من يقود من أي مستوى وفي أي حال، بمنصب أو غير منصب، وأنه قادر على صنع المنصب والوصول إليه كملكة من ملكات القيادة في التأثير والترقي.

تشير الشواهد التاريخية إلى عدد غير قليل من الشخصيات القيادية البارزة التي بدأت بدايات متواضعة من حيث المنصب والسلطة المخولة له، إلا أنَّه سرعان ما تجاوز ذلك وترقى بإمكاناته القيادية في سلم المناصب والسلطة بجدارة ليضع بصمته التاريخية، يتربع على قمة هذه الشخصيات الأنبياء والرسل (عليهم السلام) حيث إنَّ الغالبية منهم بدأوا في أبسط أشكال الحياة الإنسانية بعيدا عن الملك والسلطة، بل يجزم البعض أنهم جميعاً امتهنوا الرعي، وهذه رسالة عظيمة هامة ننقلها اليوم إلى كل قائد، أياً كان تخصصك وموقعك فأنت قادر على التغيير والتطوير ما أن بدأت بذاتك وآمنت بتمكينك وإمكاناتك.

بالرغم من أنَّ إسحاق نيوين وأنشتاين وطوماس وابن سيناء وابن النفيس وابن رشد وابن عربي وبوذا وابن الهيثم قد عرفوا من خلال علمهم أو تعاليمهم إلا أنَّ أثرهم الممتد حتى اليوم لم يتعلق بسلطة وسلطان بالرغم من الأثر والأتباع الذين لا يعدون لكثرتهم.

الذات المحبة للآخر تشع بطاقة جذب تستطيع من خلالها لمّ الأتباع وتوحيد الصف، كما أن الغايات الواضحة الجلية هي الدافع الأكبر لكسر حواجز التثبيط وتجاوز تحديات الوصول إلى هذه الغايات، أن تؤمن أنك على حق وأنَّ الأهداف والغايات التي تصبو إليها تصب في خزينة المصلحة العامة، هي البداية في مشوار القيادة الفاعلة.

وعليك دائمًا أن تطبع هذا الإيمان بقلوب اتباعك وتبحث عمن يحملون ذات التوجه والطموح لأنَّ بهم يسهل الحراك والقيادة والبناء، هذا نبي الله عيسى يقولها صراحة للحوارين "من أنصاري إلى الله" فقد حدد بهذا السؤال الإطار الذي يجمعهم حوله بإضافة ياء المتكلم في أنصاري، وحدد الغاية التي تدفعهم في التوجه إلى الله، فهكذا تؤلّف القلوب وتوجه وتذكر بين حين وآخر بأنها اجتمعت تحت راية واحدة ولغاية واحدة، لا تتغلب فيها المصلحة الخاصة على العامة ولا تستهلك الأولى بشمعة الأخرى.

كما تتجاذب الأقطاب فإنَّ بعضها يتنافر كذلك، ولذا على القائد أن يكون مهيئاً لتلقي الفئات النافرة من توجهه نحو المستقبل الواعد، وأن يعمل جاهدا من أجل تعديل قطبية التنافر إلى قطبية متجاذبة بعيدا عن القصر والتهديد بل من خلال مزيد من الشفافية والتحبيب، في الانخراط تحت ذات الراية أو على الأقل في التوجه لذات الغاية.

فقد عرف الظاهر بيبرس "المملوكي" أن الوقت متأتٍ لتوحيد القلوب وتوجيهها إلى ذات الغاية، بالرغم من أن الناس قد تناوشتها الظنون والخوف والمصالح فيما بينها، لكن إذكاء روح الجماعة لغاية سامية دائمًا يجد تلبية عجيبة وكأنه نداء الفطرة السليمة، خاصة إذا ما كان هذا الهدف هو حق مسلوب أو نجاح مطلوب.

 

مؤسسة صناع القادة

(صناع القادة يصنعون الفرق)

 

تعليق عبر الفيس بوك