المتاجرة بمرتبات المواطنين

 

د. عبدالله باحجاج

هي تِجارة مُتغلغِلة في العُمق والانتشار، ومستحكِمة في الكثير من القطاعات والشركات الحكومية، ولا يُمكن أن يتوظَّف فيها أي مُواطن مباشرة إلا عن طريق شركات خاصة، أرباحها مضمونة من استغلال مرتبات المواطنين، أصحابها مُتنفذون من الطراز الرفيع، وهى شبيهة بتجارة "الكوميشن"؛ ففيها نزعة طاغية للربح؛ حيث تقتطع هذه الشركات من مُرتب كل موظف قرابة 700 ريال لمجرد أنها وفَّرت لهم وظائف مؤقتة، كنموذج المحاضرين العُمانيين بكليات التقنية التابعة لوزارة القوى العاملة، و350 ريالا كنموذج العُمانيين العاملين في شركة عمانتل، والنماذج تتعدَّد في شركات متعددة كالطيران العماني والبنوك...إلخ.

وقد يزيد الاقتطاع أو ينقُص حسب المؤهلات والدرجات، وتلكم المبالغ المقتطعة من مرتبات الموظفين العُمانيين، تعطينا صورة عامة عن حجم استغلال هذه الشركات لحاجة المواطنين للوظائف، وكذلك تضعنا أمام مشهد مختل داخليًّا، ليس له توصيف سوى أنها تجارة بفرص عمل مستحقة للمواطنين، وللأسف تحظى بشرعية رسمية؛ فهناك مناقصات عامة لها، وهو ما يُثير الدهشة والاستغراب، وهي ظاهرة قديمة وقد تناولتها في عدة مقالات عبر جريدة "الرؤية"، وعبر حوارات إذاعية، وقضية المحاضر "الشماخي" نموذجا.

لكن استمرارها في عهدنا السياسي الجديد، هو الرِّهان الجديد الذي نعول عليه من خلال فتحنا هذه الملف مجددا بعد اتصالات من مجموعة شباب من مختلف المواقع، مستائين من استمرارية هذا الاستغلال في ظل ظروفهم الصعبة ماليا، وفي ضوء أنهم يعملون في بيئات غير آمنة، وبلا حقوق مثل نظرائهم المُعيَّنين مباشرة، وقد يتعرضون لإنهاء عقدهم في أية لحظة دون وجود ضمانات حمائية، وقد حدث.

تفاجأتُ مؤخرا بإعلانات هذه الشركات لمحاضرين للعام الأكاديمي 2020/2021 في وقت اعتقدنا فيه أنَّ مثل هذه القضايا لن تتكرر في عهدنا الجديد؛ فهذا الاستغلال مرفوض بكل المفاهيم والاعتبارات الوطنية والقانونية وبالذات الآن؛ لأنَّه ليس هناك مُبرِّر يُعطي هذه الشركات الحق في مشاركة الموظفين مرتباتهم الشهرية، كما لا يستوجب لوزارة القوى العاملة وللشركات الحكومية أنْ تكون طرفا في هذا الاستغلال، وهذه القضية من ملفات الماضي التي ينبغي الإسراع في تصحيحها، والإصلاح هنا يتماشى مع ما نُشِر مُؤخرا عن توجُّه الحكومة لإحلال الوافدين الجامعيين الذين يعملون في القطاع الحكومي بمواطنين جامعيين.

كُنا نعتقد أنَّ هذا التوجه سيصحح هذا الاختلال الكبير، غير أنَّه لا يبدو لنا ذلك، بدليل إعلانات الشركات عن محاضرين عمانيين، وكذلك استمرار هذه الشركات في الاستحواذ على فرص العمل في كليات التقنية وشركات حكومية من خلال المناقصات، وبدورها توظف مواطنين وأجانبَ بنصف المرتبات التي تتقاضاها من الحكومة، وهذا الاستغلال لن يستقيم مع مرحلة الإصلاحات الجديدة التي جوهرها تحقيق أقصى نظافة ممكنة في كل الحقول المختلفة، وفي البحث عن فرص عمل للعمانيين.

وهذه الحقول تُنتج سنويًّا فرصَ عمل كثيرة؛ فلماذا تحتكرها هذه الشركات؟ وأين دور المركز الوطني للتشغيل؟ فهذه الشركات الخاصة هي المزوِّد الوحيد لكليات التقنية وللكثير من الشركات الحكومية، وأيضا بعض مؤسسات القطاع الخاص بكل ما تريد من أطر وكوادر تدريسية وفنية، وفي مقالات عديدة سابقة تساءلنا عن أسباب تنازل وزارة القوى العاملة عن حقها في التوظيف وإسناده لهذه الشركات؟ والحال نفسه بالنسبة للكثير من الشركات الحكومية... ما دامت الحاجة تقتضي سنويا التوظيف في مهن دائمة!!!

هنا.. الإشكالية التي لا تستقيم مع مَنطق إعادة بيتنا الداخلي، بل إنها من أساساته في الشكل والجوهر، وهذه المهن والوظائف بأعداد كبيرة جدا، مثلا في إحدى الشركات الحكومية تُقدر الأعداد بـ600 شباب عماني يعملون بعقود مؤقتة عن طريق هذه الشركات التي تربح الملايين سنويا، ويُمكن القياس على ذلك كل القطاعات سالفة الذكر، فلماذا لا يتوظفون بصورة دائمة؟ ولماذا نجعل هذه الشركات تتربح من عرق وتعب العمانيين؟

علمنا أمس الأول عن التوجُّه بتوظيف المحاضرين القدامى الذين فتحنا ملفهم بقوة في مقالاتنا وحواراتنا السابقة، والملف الآن في وزارة المالية منذ شهر تقريبا، وثمَّة تسريبات تفيد بأنَّ عملية توظيفهم ستتم على جدول الدرجات الجديدة، فالبكالوريوس (الليسانس) درجته الآن 11 بدلا من العاشرة، والماجستير العاشرة بدلا من التاسعة، في وقت تُمنح هذه الشركات للماجستير مثلا بخبرات معينة 1500 ريال راتبا، والليسانس بين 1000-1200 ريال، حسب الخبرات؛ أي أعلى من تعيين الوزارة؛ مما يُدخل ذلك المحاضرين في حيرة من أمرهم؛ فهم الآن مُشتَّتون بين البقاء بالشركات والتوظيف في الوزارة.

وأصلا.. لماذا يظل خيار الشركات قائما بتلكم الاختلالات السافرة؟ بل المشهد ذاته يتعمق في الاختلال، وهو كالآتي: محاضرون جدد يتوظفون بعقود مؤقتة وبمرتبات أعلى من القدامى الذين يتوظفون رسميا؟ ولماذا هذه الازدواجية من الأساس؟ فالاستمرار لا يخدم سوى الشركات فقط، بينما يمس ذلك حقوق العمانيين وجوهر المواطنة.

في إحدى هذه الشركات، تتعاقد مع شركة حكومية براتب 890 ريالا للموظف، وتمنح هذه الشركة كل موظف من خلال عقد مؤقت براتب 418 ريالا لمن عنده دبلوم تقني، أي أنها تجني أكثر من النصف، وهذا نموذج بسيط اطلعنا عليه من خلال بحثنا الاستقصائي عن ظاهرة شركات التوظيف "الكوميشن"، وما هو واقع يبدو أكبر بكثير؛ لذلك فهذا الملف نرفعه إلى المكتب الخاص لجلالة السلطان المعظم، من منطلق ثقله -أي الملف- ولتداعياته على حقوق المواطنين، كحقهم في وظائف دائمة وآمنة، ما دامت متوفرة، وحقهم في الراتب كاملا دون استغلال، فهم مواطنون وليسوا وافدين، وشركات التوظيف تمسُّ جوهر المواطنة باستغلال جَشِع وغير مبرر.

ونقترِح من المكتب الخاص تشكيل لجنة عاجلة لدراسة هذا الملف من كل جوانبه، شريطة أن يكون المركز الوطني للتشغيل بعيدا عنه؛ فما أحدثه مؤخرا من لغط وإثارة للرأي العام في قضية كشفه لأسماء مثيرة للجدل يفتخر بتوظيفها خلال خمسة أشهر من عمله، ينحى جانبا عن الرضا الاجتماعي، في وقت كان يتوجب فيه أن يكون دقيقا وفي قمة الدقة، وصريحا في عاليها، وممنوعا من الخطأ؛ لأنه يتعامل مع قضية المجتمع الأولى، ويتعامل مع قضية حساسة جدًّا، نجاحه فيها يبدأ من الدقة والصدقية والمصداقية أولا.

ينبغِي أن تقوم هذه اللجنة بدراسة شاملة لكل الوزارات والكليات والجامعات والشركات الحكومية التي تتعاقد مع شركات "الكوميشن"، وترد الاعتبار للمواطن في حقه في التوظيف الحكومي الدائم والآمن على هذه المهن والوظائف، وفي حقه في الراتب كاملا بعيدا عن أي استغلال، شريطة أن تملك هذه اللجنة المباركة والتفويض الساميين الصريحين، وإلا ستواجه هوامير ضخمة مخيفة ما لم تتمكن بمثل تلكم الممكنات العليا.

وفي حالة استمرارها -أي هذه الشركات- فهذا يعني أنها فوق المساءلة والمحاسبة، وأن المتاجرة بحقوق المواطنين الأساسية داخل وطنهم ستتعدَّد أشكالها وألوانها؛ وبالتالي ستفتح لبلادنا تحديات جديدة، وصناعة جيل مُغتَرِب داخل وطنه، مُبتز في لقمة عيشه، يكون عُرضة للاستغلال داخل وطنه وخارجه، وهذه من "النقاط الحمر" يا وطني!