سرب الخيانة

فاطمة الحارثية

إن وضعنا الإنسان على كف الفهم والحُجة، مُقابل السلوك والمُمارسات التي يُقدم عليها، ماذا قد نجد؟ نؤمن جميعاً بأنَّ الصدق واجب، ولا يختلف اثنان في ذلك، ولكن هل كلنا نُمارس الصدق؟ إننا نذم الكذب، ونحكم على من يأتيه، وقد يتم تصنيفه أيضاً، وإن سألت أعتى كذاب في العالم، عن أهمية الصدق لسوف يقضي ساعات طوال في استعراض مُبهر عن الصدق، ليُغادر اجتماعك الممل بكذبة أن لديه اجتماع آخر؛ هل بذلك خانك أم خان نفسه؟ وهل الكذب يندرج ضمن تصنيفات الخيانة؟

إننا نحن البشر من نُعطي التعريفات للمفاهيم الفكرية والمادية والمعنوية، وتعريفاتنا وضعية، بمعنى ليست كاملة أو جوهرية أو حتى شاملة، فالناقص لا يُعطي الكمال، والقليل منِّا ممن عرّف الأمور والأشياء مما علمنا الله، فالعلم الحديث، أتى على غالبه العلمانية، وهو المتوفر في المدارس والجامعات الغربية، حيث قبلة شعوبنا لنهل العلوم أو نيل الشهادات والمسميات العلمية والفكرية الرنانة. وبينما نحن مازلنا في محاولة استيعاب آلية تعريف الأمور، وإن جاز لنا فهم المراد من بعضها مثل "العادات الاجتماعية"، قد نقول إنها موروثات تطبعت فينا، وأصبحت سلوكيات بديهية، ولا يبحث الكثير منِّا عن أصلها ونفعها وأسبابها أو حتى عُمق تأثيرها، على الفرد والمجتمع على المدى البعيد. وبجانب العادات دائماً هناك "التقاليد" فهل "التقاليد" أتت من تقليد الجيل الواحد لأفعال الجيل الذي سبقه كإرث ملزم؟ إذا الأمر كذلك، فكم في تلك "التقاليد" إرث يُثري؟ وكم منها ثرى قد يعمل على تعطيل الإبداع والتفكير ليحول الإنسان لآلة نسخ؟ وهل عدم اتباع جميع تلك المورثات بحذافيرها خيانة؟

الخيانة الإلكترونية أو الخيانة الرقمية، ألا تعتقد أننا أفرطنا كثيرا في دمجنا للأمور والمفردات ليصبح لها قوالب رنانة كي نستقطب المتلقي "سرقة الانتباه"، لابد أن ندرك قيمة الكلمة والأكثر كيفية جمع تلك المفردات في جُمل حقيقية، فكما تعلم، لقد تمَّ إعدام الكثير من الفلاسفة والعلماء عبر العصور بسبب "قول" نشروه لم يعجب النخبة واتهموا بـ"الخيانة".. نعم أيها الأعزاء، ثمَّة أُناس فقدوا حياتهم وتشتت أسرهم بسبب قول أو قلم، أي ليس لعمل أو فعل مادي محسوس، وهذا يوجب علينا أن نُوازن أقوالنا قبل أفعالنا، ونأخذ حال قولنا وردود الفعل بجدية في كافة الوسائل والمنصات. بالمُناسبة، ماذا تعتقد في حكم الخيانة بسبب "لسان أو قلم"؟ وهل "الحكم" ذاته خيانة لنعمة الحياة؟

يقول أرسطو "إنّ أكثر أعمال الإنسان؛ محكومة بالعواطف، والشهوات، لذلك فإنِّه يقع في الخطأ مهما علم العقل بضرره؛ فالإنسان يُفكر جيّداً، ويرشده فكره إلى الصواب؛ لكن تتغلب عليه شهوته؛ فتغويه"، إذاً فجميعُنا يُدرك ماهية الخيانة، ومع ذلك، يأتي بها بعضنا بعلمه وإرادته وإدراكه، وهنا هي ليست مرتبطة بالمفهوم العام "الخيانة أي الخيانة الزوجية" بل هي في حكم المُطلق، خيانة الله، خيانة النفس، خيانة العمل، خيانة القوم، خيانة الأخلاق، خيانة المبادئ، خيانة الأمانة، إنَّ القائمة لتطول إلى منصة الإعدام وقضبان الجزاء واجتراع حزن القطيعة إن بقيت أعدد.  

جسر...

"يأتي وقت يكون فيه الصمت خيانة" مارتن لوثر، لنُجمع أنه مهما تعددت أنواع الخيانة ففي المجمل هناك ألم أو لنقل رد فعل من مُتلقي الخيانة، وإن اتخذ الذي تمَّ خيانته من الصمت وقاية أو درعاً فقد خان نفسه بكل عُمق.