من الفصحى إلى "العربيزي" (5)

ما هي لغتنا القادمة؟

 

د. صالح الفهدي

تحدَّثتُ في المقالات السابقةِ عن لغةٍ جمعت بين الأحرف اللاتينية والنطق العربي جذبت الشباب العربي ومزجت بين الجانبين الأجنبي والمحلي من شخصياتهم يطلق عليها (العربيزي)، وهي لغةٌ انتشرت بين الشباب على شبكات التواصل أو (التفاصل) الاجتماعي، وخطورتها تكمنُ في تذويب الهويات الوطنية، وانسلاخ الذات عن كينونتها التاريخية.

وإذا كنَّا نتحدَّث في السابق عن علاقة اللهجات الدارجة باللغة العربية الأم، فإننا اليوم نتحدث عن شكلٍ مغاير من أشكال التواصل يضربُ مفهوم العروبة في مقتل، وقلنا إنَّ كثيراً من أولياء الأمور قد أخطأوا في حقِّ تاريخهم، وهوياتهم، ومواطنتهم وذلك بحكر تعليم أبنائهم على الإنجليزية والفرنسية منذ بداياتهم الأولى، وفي مُقابل ذلك اتَّسم تدريس اللغة العربية بالتعقيد والإيغال في تدريس النحو والإعراب وعروض الشعر وغير ذلك مما يُنفِّر طلاب العلم من تعليمهم.

علاوةً على ذلك فإنَّ أغلب ما يتلقَّاه الجيل الحالي هو باللغة الإنجليزية حتى أصبح مُقلِّداً لأهلها في ملبوسهم، وطعامهم وطرق حياتهم، وهذا أمرٌ لابد أن يُؤخذ مأخذ الأهمية القصوى من قِبل المخططين الاجتماعيين، وواضعي أُسس المناهج الدارسية، وصانعي القرارات، والمعنيين بالحفاظ على هويات المُجتمعات.

وفي ختام هذه السلسلة من المقالات يجدرُ بنا القول إنَّ علينا أن ندرك تمام الإدراك ما يُحيط بنا من مخاطر انسلاخ الهويات، وشتات الخصوصيات، فليس شرط الاغتراب الرئيس هو الخروج الجسدي من الأوطان، وإنما الاغتراب الأكبر أثراً هو وجود الإنسان في وطنه جسداً، واغترابه نفساً وعقلاً خارجه من خلال اللغةِ، والدين، وكل أشكال الارتباط بالهويات الوطنية، والشعور بالانتماء نحو الوطن، والذود عن أرضه، والدفاع عن مُقدراته.

هذا الإدراك يدفعنا إلى العمل بجديِّةٍ، ومنهجيةٍ لإعادة النَّظر في التعليم القائم خاصة مقررات اللغة العربية، لجعلها لغةً محبَّبةً إلى أبنائها، بما تملكه من آداب متنوعة، فالإنجليز –كما قلت في أحد مقالات هذه السلسلة- يعمدون إلى القصص المتدرجةٍ التي توسِّع مدركات الخيال، وتثري القاموس اللغوي للأطفال، فيكبرون وهم متعلِّقون بلغتهم، متمسِّكون بالتحدث بها لأنها قد أصبحت جزءاً من ذاتهم الإنسانية، وبعضاً من شخصياتهم الثقافية.

لا يُمكن لهذا الوضع القائم في التعليم أن يستمر على ما هو عليه دون تغيير جذري يقوم به أناس واعون بالأخطار التي لا أصفها بالمحدقةِ فذلك وصفٌ قديم، بل بالمتغلغلة والمُتمكنة فينا لأننا نرى نتائجها واضحةً للعيان، بيَّنةً لكل صاحب عقلٍ رشيد.

المؤسسات الإعلامية لها دور في إنتاج الأعمال التي تُحبب اللغة العربية لأبنائها بعيداً عن الأسلوب النمطي المتبع والذي لا يخلو من التعقيد، فيكون منفراً بدلاً من أن يكون جذاباً..! لقد وَجَدَت مؤسسة البرامج المشتركة لدول الخليج العربي أهمية في عودة برنامج "افتح يا سمسم" بقالب جديد، فلم تتردد في إعادته، والبرنامج تعليمي تربوي ترفيهي يُعتبر النسخة العربية من مسلسل أمريكي اسمه "شارع السمسم" وبالإنجليزية (Sesame Street) من إنتاج المؤسسة أنتج الجزء الأول منه سنة 1979 والثاني سنة 1982، وبدأ إنتاج أول موسم له بحلة جديدة في يناير 2015 بإشراف من لجنة استشارية للتعليم مكونة من عدد من المؤسسات التعليمية والثقافية والصحية وعرض في نفس العام على عدة قنوات.

هناك أيضا برنامج آخر من إنتاج شركة بابل للإنتاج السينمائي والتلفزيوني بعنوان "مدينة القواعد" تم عرضه لأول مرة في سنة 1986، وقد رحل عن الحياة أغلب من عمل فيه من الممثلين من أمثال جعفر السعدي، خليل الرفاعي، وفوزي مهدي.

والسؤال هو: لماذا اهتم رجالات التعليم والإعلام في دولنا بالحفاظ على اللغة العربية والقيم في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين، في حين ضعف هذا الاهتمام اليوم في وقت باتت مجتمعاتنا في أمسِّ الحاجة إلى هذا الاهتمام أكثر من السابق؟! هذا سؤال يحتاج إلى بحثٍ عميق وواسع.

لا يمكننا أبدًا أن نحسن إلى أنفسنا، ونحفظ تاريخنا، ونصون هويتنا، ونعزز مواطنتنا إلاَّ بالاهتمام بالعناصر الأساسية للهوية وعلى رأسها اللغة العربية، التي شرَّف الله أبناءها فأنزل آخر دساتيره السماوية بها فقال سبحانه وتعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف/2) وأرسل خاتم أنبيائه ورسله عربياً من بينهم، فهو أفصحُ العرب، وأقومهم لسانا، وأجلاهم بيانا، قال صلوات ربي وسلامه عليه" أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي".

فكيف لأمَّةٍ شرَّفها الله بهذا التشريف العظيم، وأجلَّها بهذه الإهداءِ الكريم أن لا تعتني باللغة العربية، وأن لا تستمدَّ منها القوةَ، والأنفة، والعزَّة؟ لقد سمعتُ والله- وهذا مما يبعث الغيرة في النفوس- من يتحدثون باللغةِ العربية من غير أهلها وقد درسوها فأصبحوا أفصح من بعض الفصحاء من أهلها، وإنني هنا لأدعو إلى الاستفادة من كلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية لتدريس غير الناطقين بها، أدعو أن تستفيد من طرق تدريسها المؤسسات التعليمية لدينا لتدريس (الناطقين) بها الذين اعوجَّت ألسنتهم، وخالطتها عجمة، وتلعثمت بها، وانفصلت عنها، وجفت وصلها، وهجرتها.

هنا أستذكر ما قالته متخصصة في اللغويات في مقابلة تلفزيونية عملت لسنوات طويلة كمترجمة متميزة في الامم المتحدة، تقول إن اطفالنا اليوم ينقصهم التفكير والابداع والتخيل والتصور، وذلك بسبب الفقر الشديد في حصيلتهم اللغوية حيث لا تتجاوز 3 آلاف كلمة في المرحلة العمرية ما بين 3- 6 سنوات، بينما الحصيلة اللغوية للطفل الغربي 16 ألفا!

وهذا ما يحصر الطفل العربي- حسب ما وَجَدَته- في حدود ضيقة من التفكير، وتعود إلى كتاب بعنوان: "الاسلام الثوري" للمؤلف (جيسن) (Jason) لتعرف السبب حيث ذكر المؤلف أن الإنجليز والفرنسيين بعد سيطرتهم على الدول العربية إثر سقوط الإمبراطورية العثمانية بحثوا في أسباب قوة الإنسان المسلم الفكرية التي هيأت مدَّ نفوذه من أقصى الشرق حتى (فيينا) فقاموا بإجراء بعض الدراسات توصلوا فيها إلى أن الطفل العربي المسلم من عمر 3 – 6 يذهب الى الكتاتيب لحفظ القرآن الكريم، ثم بعد السنوات الست يذهب الى المدرسة ليحفظ ألفية ابن مالك التي تعينه على تعلم قواعد اللغة العربية، فتصل حصيلته اللغوية إلى 50 ألف كلمة من القرآن وحده إضافة إلى الألف بيت من ألفية ابن مالك، فعملوا على إلغاء الكتاتيب في الدول التي كانت تحت سيطرة الاستعمار، وأقاموا المدارس الحديثة التي بدأت تعليم الأطفال في سن 6 سنوات، وبالتالي ضاعت من الطفل أهم فترة في حياته ليتعلم فيها اللغة، وأصبح يتلقى تعليماً سطحياً لا عمق، ولا ذخيرة لغوية قوية فيه.

إننا ندعو إلى أهمية إعادة تعليم القرآن الكريم وتحفيظه بالإضافة إلى الكتب ذات الذخائر الغنية إلى الطفل المسلم في سن 3 سنوات من خلال الحضانات ورياض الأطفال لنؤسس جيلاً يستعيد قيمة لغته، وذاته، ويحفظ حضارته، ويصون هويته.