جائحة كورونا وأثرها على القطاع الخاص

عصام الجندلي **

تردنا العديد من الاستفسارات حول جائحة كورونا وأثرها على العقود الملزمة للجانبين ومنها عقود الإيجار وعقود العمل غيرها. ولذا وكمحاولة لتخفيف حدة الغموض الذي يكتنف هذا الموضوع، ارتأينا تقديم مداخلة قانونية علها تكون استرشادية حول طريقة التعامل مع الظروف الحالية.

إن تفشي الأمراض والأوبئة بين العامة بشكل واسع مثل جائحة فيروس كورونا لا يعدو كونه حالة قوة قاهرة لا سيما ما تمخض عنها من آثار ونتائج سلبية على الأفراد والشركات ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ توقف عجلة الاقتصاد بسبب اغلاق معظم الأنشطة التجارية والخدمية في القطاعين العام والخاص ما أدى بنهاية المطاف الى توقف الإيرادات.

أثر الجائحة على العقود الملزمة للجانبين

من المعلوم أن نظرية القوى القاهرة هي نظرية عالمية نصت عليها شرائع معظم دول العالم ومن ضمنها المشرع العماني. وإنه وإن كان المشرع العماني ترك مسألة تعريف القوى القاهرة للمبادئ العامة الا أنه فرق بينها وبين الحالات الإستثنائية العامة التي تؤثر على المدين والتي تجعل تنفيذ الالتزام يعود بالضرر عليه. ففي حين المادة ١٥٩ من قانون المعاملات المدنية رتبت على الحوادث الإستثنائية حق المدين باللجوء للمحكمة للقضاء برد الالتزام المرهق الى الحد المعقول، فقد أعطت المادة ١٧٢ من ذات القانون حكما قانونيا بفسخ العقد تلقائيا وانقضاء الالتزام عندما تجعل القوة القاهرة تنفيذ الالتزام مستحيلا، كما وقررت ذات المادة انقضاء الالتزام في الجزء الذي استحال تنفيذه عندما تكون الاستحالة وقتية كما يحدث في العقود المستمرة.

وحقيقة الأمر أننا ومن خلال استطلاع الظروف الراهنة وجدنا أن حالة القوة القاهرة والظروف الاشتثنائية بالمعنى المقصود في نصوص قانون المعاملات المدنية قد تداخلت وتخللت بعضها بعضاً حيث يمكننا الجزم بأن القوة القاهرة نتج عنها ظروف استثنائية والعكس أيضاً صحيح، بمعنى أنه لو اعتبرنا أن تفشي الجائحة هي حالة قوة قاهرة فإن الإجراءات الاحترازية التي انتهجتها السلطات للحد من التفشي هي ظروف استثنائية ولو افترضنا أن الجائحة فسرت على أنها ظروف استثنائية فإن الإجراءات الاحترازية التي أصدرتها السلطات المختصة قد تفسر على أنها قوى قاهرة، وهناك أيضاً رأي ذو حجة منطقية يعتبر أن تفشي الجائحة هو قوة قاهرة وأن كل قرار اداري صادر من السلطات المختصة سواء بالاغلاق أو الحظر مهما كان نوعه هو بحد ذاته قوة قاهرة اذ أن جميعها يخرج عن السيطرة ولا يمكن الحد من آثاره، وعموما فإن الوصف القانوني للظروف الراهنة والتعريف القانوني السديد لها يبقيان خاضعين للتفسير القضائي في ظل عدم وجود تعريف قانوني محدد نص عليه المشرع.

ولذا فإن ما سنورده في هذه المداخلة القانونية سيعرض للنتائج التي حددها القانون على كل من القوة القاهرة والظروف الاستثنائية دون تحديد الوصف القانوني للحالة أو الحدث.

 وبتطبيق النصوص القانونية سالفة البيان على الظروف الحالية نستطيع أن نتوصل للنتائج التالية فيما يخص العقود الملزمة لجانبين بشكل عام:

القوة القاهرة

  • في حال أن كان التأثير البادي على المتعاقد يؤدي بنهاية المطاف الى استحالة تنفيذ الالتزام الملقى على عاتقه استحالة كلية فينقضي الالتزام ويفسخ التعاقد تلقائيا. ويمكننا أن نورد مثال على ذلك في عقود التوريد، فلو كان المورد قد تعرض لقوة قاهرة مثل اغلاق الحدود أو منع الاستيراد أو التصدير ما جعل تنفيذ التزامه للمشتري بتوريد البضاعة المطلوبة مستحيلاً فينقضي التزام المورد وينفسخ عقد التوريد تلقائياً وبالتالي ينقضي أيضاً التزام المشتري بدفع الثمن ولو كان قد سدده فعلاً للمورد فيلتزم الأخير برد الثمن.
  • في حال أن كانت استحالة تنفيذ الالتزام متعلقة بجزء معين منه أو أن كانت الاستحالة مؤقتة فينقضي الإلتزام بالتناسب مع الجزء الذي استحال تنفيذه أو ينقضي الالتزام فقط في الفترة التي يمتد بها التأثر وهذا في حالة العقود المستمرة. فمثلاً في المثال السابق لو كان هناك منع من السلطات المحلية يقتصر على توريد جزء معين من البضاعة أو لو كان المنع لفترة محددة فقط، فإن المورد ينقضي التزامه بتوريد الجزء من البضاعة التي تم صدور منع باستيرادها أو تصديرها، وينطبق ذات الأثر فيما لو كان المنع مؤقتاً في العقود المستمرة المرتبطة بالمدة الزمنية حيث ينقضي التزام المورد في المثال السابق طوال الفترة التي يسري بها المنع ولكن يستمر الالتزام بعد زوال المنع اذا كان العقد مستمرا لما بعد انتهاء الأثر.  

الحوادث الاستثنائية

في حال انتفاء الاستحالة في التنفيذ واقتصر أثر الحوادث الاستثنائية على كون الالتزام مرهقا فيتم الاتفاق بين الطرفين على تخفيض أو تقليص الالتزام الى الحد الذي يتناسب مع آثار ونتائج الظروف الاستثنائية، ويتم اللجوء الى المحكمة المختصة لتقدير الالتزام في حال عدم الركون الى اتفاق، ومثال ذلك حالة تفشي جائحة كورونا وما ترتب عليها من آثار سلبية على الاقتصاد وايرادات الشركات والأشخاص، فلا يخفى على أي عاقل أن ظروف الحظر واغلاق الأنشطة التجارية المختلفة أدى الى توقف الدخل وبالتالي الى سلسلة من الآثار من ضمنها صيرورة تنفيذ الالتزامات في معظم العقود ذات الالتزامات المتبادلة ومنها الإيجارات مرهقة للأشخاص والشركات وهو ما حدا بالأطراف المعنية الى التفاوض بشأن تلك القيم وتخفيضها بما يتناسب مع الظروف الراهنة، وفيما لو لم يتم التوصل لاتفاق بشأن تلك القيم فيكون لذي المصلحة أن يلجأ للمحكمة لتقدير القيمة العادلة.

 ومن المعلوم قانوناً وفقهاً أن القاعدة العامة الأولى بالرعاية والتطبيق هي أن يبقى كل من المتعاقدين قادراً على تنفيذ التزاماته من دون ضرر يلحقه، وعليه فإذا حل بأحد المتعاقدين عذر أو تغيرت الظروف التي تم فيها ابرام العقد بحيث أصبحت تؤدي الى اختلال في التوازن الاقتصادي بين الطرفين أو تجعل تنفيذ الإلتزام مرهقاً أو مضراً بأحدهما، يصبح تنفيذ هذه الإلتزامات جائراً على الطرف المتأثر وينبغي تعديل الإلتزام الى الحد الذي يرفع به الضرر.

أثر الجائحة على عقود الإيجار

لم يرد أي نص خاص في قانون تنظيم العلاقة بين ملاك ومستأجري المساكن والمحال التجارية والصناعية العماني لمعالجة حالات القوة القاهرة أو الظروف الاستثنائية أو حالة الالتزام المرهق، وبالتالي لا بد في هذه الحالة من الرجوع الى القوانين صاحبة الولاية العامة مثل قانون المعاملات المدنية. وهذا مبدأ قانوني متعارف عليه في معظم الشرائع.

وعليه فإننا ومن حيث المبدأ نرى إمكانية تطبيق النصوص السالفة على عقود الإيجار وفقاً للمبادئ العامة، ولكن لا بد لنا أولا أن نطبق النصوص الخاصة بعقود الإيجار في قانون المعاملات المدنية ومن ثم يمكننا تطبيق النصوص الأخرى (المواد ١٥٩ و١٧٢) فيما لم يرد بشأنه نص خاص في باب عقود الإيجار لأن عقود الإيجار في نهاية المطاف هي عقود ملزمة لجانبين.

فقد عالجت المواد من ٥٤٩ وحتى ٥٥١ حالات متعلقة بعقود الإيجار سواء السكنية أو التجارية منها، وهذه الحالات هي تلخص جانب من النتائج المترتبة على تفشي جائحة كورونا وظروف الحظر والإغلاق ولذا سنعرض لحالات تطبيق نصوص المواد السالفة ومن ثم سنتعرض للنصوص 159 و 172 من القانون ذاته ومدى انطباقها على عقود الإيجار:

  •  لو صدر عن السلطات المختصة أمر أو قرار يحرم المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة كلياً فينفسخ عقد الإيجار وتسقط الأجرة من تاريخ نفاذ القرار ومثال ذلك أن يصدر قرار من السلطة المختصة بمنع ترخيص المحال التجارية في المناطق السكنية أو حظر ممارسة نشاط معين.
  • وفي حال أن كان القرار الصادر عن السلطة المختصة يؤثر جزئياً بمنفعة المستأجر للعين المؤجرة مثل أن يحظر بعض الأنشطة الممارسة في العين المؤجرة أو أن يتم اغلاق العين المؤجرة مؤقتا لظروف لا تتعلق بالمستأجر ففي هذه الحالة ينشأ حق خالص للمستأجر بفسخ عقد الإيجار وعليه تسقط الأجرة ولكن من تاريخ الاخطار الذي يوجهه المستأجر بالفسخ.
  •  وعلى فرض عدم صدور قرار يمنع أو يقيد المنفعة بالمأجور، ولكن الاستمرار بعقد الايجار سيترتب عليه ضرر بيّن بالمستأجر بنفسه أو ماله فيمكن للمستأجر فسخ العقد.
  • أما في حال كان المستأجر لا يرغب بفسخ الإجارة ولكنه تأثر بحالة فوات المنفعة من المأجور لمدة معينة، فتسقط الأجرة عنه طوال فترة فوات المنفعة.

وبتطبيق المبادئ القانونية السالفة البيان على الظروف الراهنة، نستطيع التوصل أنه يمكن للمستأجر الاستفادة من الحلول التالية والتي تختلف باختلاف الأثر الناتج وبحسب كل حالة على حدة:

  • فلو كان المستأجر يمارس نشاط هو من ضمن الأنشطة التجارية التي صدر قرار بإغلاقها تماما من السلطات المختصة أو لو كان المستأجر يمارس عدة أنشطة وتم حظر بعضها، فيكون للمستأجر حق فسخ عقد الإيجار مع سقوط التزامه بدفع الأجرة من التاريخ الذي يخطر به المستأجر المالك بالفسخ (نص المادة 550 ).
  • وفي حال لم يتم حظر أي من أنشطة المستأجر التي يمارسها في المأجور ولكنه تأثر بحالة تفشي الجائحة وتوقف دخله بسبب توقف نشاط معظم عملائه أو عدم مقدرته على توريد بضائعه بسبب ظروف إغلاق بعض الولايات وحظر الدخول أو الخروج منها فإن المستأجر في هذه الحالة يكون في حالة ضرر محدق إن استمر بعقد الإيجار ويكون له حق:
  •  إما فسخ عقد الإيجار على أساس أن الاستمرار به سيؤدي الى الإضرار به (نص المادة 551).
  •  أو التوقف عن سداد الأجرة على أساس نص المادة 549 من القانون.
  •  كما يمكن للمستأجر أن يتفاوض مع المالك لتخفيض الأجرة أو أن يلجأ للمحكمة لتحدد قيمة التخفيض فيما لو لم يتم الاتفاق مع المالك على قيمة التخفيض (نص المادة 159).  

ويبقى أن نشير إلى أنه وكقاعدة عامة لجميع الحالات الواردة أعلاه، فيتوجب على المتعاقد المتأثر بحالة القوة القاهرة أو الحدث الاستثنائي أن يثبت الضرر الواقع عليه، ذلك أنه وإن كانت حالة القوة القاهرة أو الحدث الإستثنائي لا يحتاجان للإثبات كونهما دخلا في العلم القضائي الا أن إثبات وقوع الضرر الواقع ومقداره من قبل الطرف المتأثر أمر حتمي.

أثر الجائحة على عقود العمل  

لم يرد في نصوص قانون العمل العماني أي نص حول حالة القوة القاهرة مثل جائحة كورونا ولذا وحسب المبادئ العامة لا بد من الرجوع الى القواعد العامة.

وقد أبدت اللجنة العليا المكلفة بالتعامل مع جائحة كورونا عدة توجيهات، حيث تمثلت هذه التوجيهات بفئتي العمالة الوطنية منها والوافدة. فقد خلصت اللجنة في توصياتها الى عدم جواز إنهاء خدمات العمالة الوطنية أثناء ظروف الجائحة، كما قررت وجوب استنفاذ العمالة الوطنية لرصيد مستحقاتها من الاجازات السنوية المتراكمة بأجر كامل وعلى أن يتم التفاوض والاتفاق بين رب العمل والعامل على نسبة التخفيض من الأجر لمدة ثلاثة أشهر ابتداء من شهر مايو ٢٠٢٠، وبالمقابل أوجبت على رب العمل تخفيض ساعات العمل، بمعنى أن تتناسب نسبة التخفيض مع عدد الساعات التي يعمل بها العامل، والجدير بالذكر أن اللجنة لم تحدد الحد الأدنى أو الأقصى لنسب التخفيض وإنما تركت ذلك رهن التفاوض والاتفاق بين طرفي العلاقة التعاقدية.

ولم تتحدث اللجنة في قراراتها وتوصياتها عما بدر من بعض الشركات التي أعطت لموظفيها إجازات دون أجر، وبتقديرنا أنها تركت ذلك للاتفاق بين رب العمل والعامل وفق نصوص قانون العمل. وخلاصة ما سبق أن مسألة الاجازات بدون أجر تتطلب موافقة العامل سواء أكان من العمالة الوطنية أو الوافدة.

أما العمالة الوافدة، فلم تحدد توجيهات اللجنة العليا أي قواعد بشأنها فيما يخص التخفيض من الأجر ولكن اللجنة أوصت بجواز قيام شركات القطاع الخاص بانهاء خدمات العمالة الوافدة في حال عدم مقدرتها على تحمل أعباء سداد الأجور والحقوق العمالية الأخرى.

وبالعموم وحول مدى إمكانية قيام أرباب العمل بتقليص عدد العمالة لديهم سواء الوطنية أو الوافدة، فإنه وفق ما استقر عليه قضاء المحكمة العليا في سلطنة عمان، يمكن لشركات القطاع الخاص أن تعمل على إعادة هيكلة الشركة عن طريق تقليص عدد عمالها ومستخدميها (الوطنية والوافدة) اذا تعرضت لظروف مالية صعبة تهدد بالإفلاس أو التصفية مثل تراكم الخسائر لسنوات مالية متتالية وعلى أن تكون الأولوية بالبقاء للعمالة الوطنية بمعنى تفضيل الإبقاء على العامل الوطني في حال تساويه بالدرجة والكفاءة مع العامل الوافد.

المسؤولية المشتركة

مما لا يدع مجالاً للشك، فإن الظروف الراهنة تتطلب التعاون التام بين جميع فئات المجتمع سواء ملاك العقارات والمستأجرين، وأرباب العمل والمستخدمين، وأطراف التعاقد في العقود بشكل عام على اختلاف أنواعها وأصنافها. وإننا نضع هذا النوع من التعاون بمصاف الواجب الوطني لكل من يقبع على أرض سلطنة عمان، حيث أن هذا التعاون سيحفظ الاقتصاد الوطني وسيحقق التوازن الاقتصادي كما وسيحمي المراكز القانونية للأشخاص والشركات في القطاع الخاص وسيحقق الصالح العام الذي يجب أن يفضل على الصالح الخاص، وهناك العديد من الأمثلة لدوائر حكومية وشركات حكومية أو شبه حكومية كانت مثالاً يحتذى به للتعاون المنشود ونذكر منها على سبيل المثال وزارة الأوقاف والطيران العماني وغيرهما.

التقييم القانوني

جميع الآراء الواردة في هذه المداخلة القانونية لا تعدو كونها تحليلات وتقييمات قانونية مبنية على فكر شخصي، وحيث أن الظروف الراهنة جديدة ولم يسبق عرضها على القضاء العماني بالمعنى والتفاصيل التي نعيشها حالياً فإن آراءنا قد تصيب وقد لا تصيب وجهة نظر القضاء العماني وتوجهاته. كما أن الآراء و المشورات الواردة في هذه المداخلة القانونية لا تصلح لأن تكون قاعدة موحدة لتسري على جميع الحالات والنزاعات، حيث أن لكل نزاع ظروفه وتفاصيله الدقيقة التي قد تكون أساس لتطبيق أو مخالفة أي من الآراء الواردة.

 

** محامٍ- شركة يوسف الغافري وعصام الجندلي للمحاماة

تعليق عبر الفيس بوك