يوسف عوض العازمي
Alzmi1969@
"علَّمته الرمي فلما أشتد ساعده رماني"، هل تعلم أنَّ المقولة الشهيرة هي قصة حقيقية لشخصيات معروفة تاريخياً وسببها هو سليمة بن مالك بن فهم الأزدي قتل والده رميًا بالخطأ، وهو الذي تعلَّم الرماية على يد أبية مالك، وهنا خرجت المقولة للتي يُقال أيضًا إنها شطرا من بيت شعر كتب عن الحادثة التاريخية!
من يقرأ التاريخ، يجد أحداثاً جسيمة غيَّرت مسار دول، وأحوال مُجتمعات، وقعت على دفاتر التاريخ توقيعات ثابتة، وسمات بارزة، وسطور مازالت تقرأ بفخر واعتزاز، بل من خلال قراءات التاريخ تجد أحداثاً أقرب للأسطورة منها للحقيقة أول الأمر هو مالك بن فهم الأزدي وهو من الأزد الذين يرجع أصلهم إلى قبيلة زهران المعروفة في جنوب شبه الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية حاليا)، ونتيجة لظروف معينة انتقلت مجموعة من القبيلة إلى جزء آخر من جنوب شبه الجزيرة العربية وبالتحديد إلى عُمان وفيها استقرت القبيلة الأزدية الأصل، وهناك كان الفرس هم المسيطرون، فقام وحارب الفرس واستطاع هزيمتهم، وبعد ذلك استطاع الحكم في عدة مناطق من عُمان، واستمر حكمه وقتًا طويلا وورثه أبناؤه، وكانت عُمان وقتها تزدهر تجارتها وتواصلها مع ما حولها من البلدان من كان يتوقع أن يقوم فتى عُماني جذوره من جنوب شبه الجزيرة من أصول أزدية، بحكم منطقة كرمان المعروفة في إقليم فارس.
سيكون حديث هذه السطور عن سليمة بن مالك بن فهم الأزدي، وهو ملك وشاعر جاهلي من قبيلة زهران الأزدية، حكمت أسرته عدة مناطق في عُمان، وكان أبوه مالك يخصه بالعناية والتعليم، إذ علَّمه الرمي فمهر فيه، وقد قتل سليمة أَباه خطأ، فهرب إِلى كرمان وتزوج فيهم، وبعد مدة تمكَّن من قتل الملك الفارسي بمعونة أَهل ذلك البلد فملّكوه عليهم، ومات بأَرض فارس كان هو وإخوته يتناوبون الحراسة على أبيه الملك مالك بن فهم، وكان لشدة حظوته عند أبيه قد أثار الحسد عند إخوته عليه، فأخذوا يكيدون له عند أبيه وأنه ليس بالجدير بالحراسة، ومع كثرة الكلام ضده، قرَّر أبيه أن يُعاين الوضع بنفسه واختبار الفتى سليمة حتى يتبين من صحة أقوال أبنائه وزعمهم ضد أخيهم، وكان الوقت ليلاً ، فلمَّا دخل الملك مالك بن فهم مكان الحراسة وكان سليمة هو القائم عليها، فنادى مالكاً على الحرس، فلمَّا انتبه سليمة لوجود مُتسلل (كان يحسب أبيه أحد المتسللين) أطلق عليه سهمًا فأصاب مكان القلب وأرداه قتيلا، ولما تمَّت المعاينة اكتشف أنَّه قتل أبيه الملك، وكان أمرًا مؤلما وحزينا، وهو السبب في القصيدة الشهيرة التي بدأت بها المقال، وكان وقتذاك أقرب إخوته له هو هناء بن مالك، الذي قدَّر الموقف والقتل الخطأ، لكن سليمة كان يخشى من أخيه الآخر معن بن مالك، الذي كان متشددا حيال سليمة. لكن تدخل الأخ هناء وأعطى لأخيه معن دية القتل حتى يصفح عن أخيه سليمة، وبالفعل قبلها معن، لكن سليمة لم يرتح للبقاء لأنه كان يخشى معن، واحتمال الانتقام، لذلك قرر السفر عن عُمان، وكانت كرمان في بلاد فارس هي الملاذ والهجرة.. ومنها بدأ فصل تاريخي جديد؛ حيث ذهب سليمة بن مالك إلى بلاد فارس وبالتحديد كرمان وعندما علم وجهاء وكبار كرمان بأنَّ سليمة من أسرة مالك بن فهم الحاكم في عُمان مما أعطاه حظوة وترحيباً، وعاملوه بإحسان، وأثناء وجوده عندهم عرف بأنَّ أهل كرمان يعانون من سوء المُعاملة من الحاكم الفارسي، وأنَّه يستغل قوته وسطوته لإهانتهم والتنكيل بهم لدرجة أنه فرض على كل متزوج أن يبدأ زواجه بطريقة غير مألوفة ومستهجنة إذ تُؤخذ الزوجة الجديدة إلى الحاكم الفارسي ليدخل عليها قبل زوجها، ونظراً لنقص القوة والقدرة كان أهالي البلدة يضطرون اضطرارا تحت وطأة الخوف والضعف، رغم محاولاتهم العديدة للانقلاب عليه والتي باءت بالفشل، فاستسلموا مرغمين!
عندما عرف سليمة بتلك الأمور قرَّر أن يقوم بخطوة غير مسبوقة إذ جمع عددًا من وجهاء وأكابر كرمان وخطب بهم معلنًا استعداده لقتل الملك، وأكد لهم قدرته على ذلك، وطلب منهم أن يبلغوا الملك الفارسي بعرس جديد، وبنفس الوقت جهز مُقاتلين لينتظروه بالقرب من مقر الملك وبطريقة خطط بها للمقاتلين الكرمان، حتى إن استطاع تنفيذ مراده يساندوه وفق خطة مُحكمة، وبالفعل لبس لباس العروس التي تتغطى به وكان معه سلاح مخفيا بملابسه، فلما أدخلوه إلى الملك واستفرد به، نزع الغطاء وأظهر سلاحه مفاجئًا الملك المعزول في هذه اللحظة التي كان يتصور إنه سيكون أمام عروس جديدة، وبعد قتال قصير قتل الملك، وقام بعدها بالوقوف فوق القصر معلناً قتل الملك عندها قام مقاتليه بالدخول وسيطروا على القصر، واستطاع سليمة تحقيق الإنجاز الذي طال انتظاره.
ومن الشروط التي اشترطها سليمة على أهل كرمان أنَّه إن استطاع قتل الملك أن يُبايعوه على الحكم ويكون الحكم بعده لذريته، وأن يزوجوه امرأة من كبار بيوتهم، وهم إذ وافقوه على الشرط الأول إلا أنَّهم ترددوا في قبول الشرط الثاني، ثم وافقوا على مضض ربما لم يتوقعوا تحقق كلام سليمة ونجاحه، وبالفعل شهد التاريخ بتبوء سليمة ملك كرمان، كأوَّل ملك عربي قح يحكم منطقة في بلاد فارس محققًا بذلك سبقا تاريخيا، وأيضا إشارة إلى قدرة العرب على تحقيق أصعب المنجزات مما يستخلص من القصة التاريخية الأقرب للأسطورة.
وهنا أؤكد أنني ومن خلال تتبع عدة مصادر مقروءة ومرئية لبحث هذا الحدث التاريخي وجدت شبه اتفاق على الخطوط العريضة للقصة، وكانت هناك بعض التفاصيل لم تكن واضحة أو بالأحرى لم يتفق حولها المؤرخون، لكنني ركزت على المرتكزات المتفق عليها، حتى أكون على قدر من الثقة في النقل ومحاولة البعد بقدر الإمكان عن أية أخطاء مما ذكره المؤرخون من أن حكم سليمة استمر عبر أبنائه وبعد ذلك حصلت خلافات مما أضعف الحكم وجراء ذلك سقط حكم أبناء سليمة، واستعاد أبناء كرمان الحكم وتشتت ذرية سليمة بعد السقوط، هناك من لجأ إلى مناطق فارسية، وهناك من عاد إلى عُمان؛ حيث حكم قومهم من أبناء مالك بن فهم الذين كانوا مايزالون على سُدَّة حكم ولهم هيبة ونفوذ، ومما قرأت من بعض المصادر أنَّ بعضا من ذرية سليمة توزعوا على مناطق في بلوشستان ومناطق عند مضيق هرمز منها مناطق رؤوس الجبال وغيرها.
وهذا حال الأسر الحاكمة عندما يسقط الحكم تتشتت في بقاع الأرض طلباً للنجاة وللاستقرار ولحياة جديدة، ولا دائم إلا وجه الله.
في تصفح صفحات التاريخ دروس وعبر، وألا مستحيل أمام الإنسان، فمن كان يتصور أنَّ مجموعة من قبيلة زهران الأزدية تهاجر إلى عُمان وتحكم عدة مناطق فيها بالعصر الجاهلي، ثم يخرج منها شخص يتَّجه لبلاد فارس ووسط ظروف معينة يتبوء الحكم على جماعة ليسوا من أصله ولا لغته، أمور لولا اتفاق المؤرخين الثقاة على صحتها، لربما وضعناها في مكان قصص الأساطير، وهي بالفعل أشبه بالأسطورة.