الموظف بين الترقية والتقاعد

 

رجب بن علي الكثيري

rajab@rajbasso.com

جاء القرار الصادر عن مجلس الخدمة المدنية، والقاضي بإحالة كل موظف عمومي أكمل 30 عاما في الخدمة إلى التقاعد المبكر الإجباري، شبيها بقرار التقاعد المبكر الاختياري الذي لجأت إليه الحكومة في تسعينيات القرن الماضي، والذي بموجبه تمَّ خفض سن التقاعد -الذي يكون عادة 60 عاما- بحيث أن التقاعد يكون اختياريا لمن يرغب، شريطة أنْ يكون قد أكمل مدة عشر سنوات في الوظيفة، وشجعت على ذلك بالحصول على تعويض مادي يساوي 12 راتبًا أساسيًّا دون أي علاوات؛ وذلك بغرض إتاحة الفرصة أمام المزيد من العاملين الشباب وخفض البطالة وتقليل التكدس الوظيفي.

وكان من نتائج ذلك القرار فُقدان المؤسسات الحكومية لعدد كبير من الكفاءات والخبرات وحملة الشهادات العلمية التخصصية في أحدث المجالات العلمية؛ وكان للقطاع الخاص نصيب الأسد في توظيفهم والاستفادة من هذه الكفاءات والخبرات المهنية والعلمية. كما كان لصندوق تقاعد الخدمة المدنية الجائزة الكبرى من العجز المالي الاكتواري في تاريخه، حيث بلغ أكثر من سبعمائة مليون ريال عماني.

وما بين هذين القرارين المتعلقين بالتقاعد: الاختياري والإجباري، صدرت قرارات أخرى متعلقة بترقيات جماعية لعدد من موظفي الخدمة المدنية، والتي كانت تعتبر حقًّا لكل موظف بمدة لا تزيد على أربع سنوات، وكان معيار الترقية أيضا الاعتماد على عدد السنوات التي قضاها الموظف في درجته المالية التي يشغلها.

وتبارت أقلام الكتاب في مناقشة إيجابيات وسلبيات التقاعد الإجباري لمن أكمل 30 عاما في الخدمة، وأبحرت في سبر أغواره وآثاره الاقتصادية والاجتماعية، وتباينت الآراء فيما بينهم، بين مؤيد لهذه القرارات ورافض لها، وبين من يبحث عن شرعيتها القانونية، ومرجعيتها الدستورية. لكنها اتفقت على معيار وحيد اشتركوا في مضمونه. وهو: هل مسألة تقاعد الموظف العمومي يجب أن تعتمد على "العمر" أي سن التقاعد الذي يحدده القانون بـ60 عاماً؟ أو هل يجوز استبدال هذه السياسة بسياسة خفض سن التقاعد إلى 30 عاماً من الخدمة؛ بحيث يكون التقاعد اختياريًّا لمن يرغب، أو إجباريًّا تفرضه الحكومة وذلك كمعيار أساسي للتقاعد.

الغريب في الأمر أنَّ هؤلاء الكُتَّاب الذين ناقشوا ومنذ أسابيع قضية المتقاعدين لم يتطرقوا ولو للحظة واحدة إلى مسألة ربط الترقية أو التقاعد بالإنتاجية أو الأداء الوظيفي للموظف، أو إلى عناصر الكفاءة والخبرة المهنية، أو إلى الشهادات العلمية التخصصية، ناهيك عن معايير أخرى: إدارية، واقتصادية أو اجتماعية...إلخ، والتي تعتبر معايير جوهرية يعتمد عليها عند تقرير أحقية الموظف في الترقية، أو أنه وصل لمستوى من عدم الكفاءة المهنية، ومن ثم فإنَّ التقاعد يبقى أحد الخيارات الوطنية، لا شك أنَّه سيُتيح المجال للعديد من الشباب الباحثين عن عمل للحصول على وظائف جديدة، ومن ثمَّ تدوير العمل الحكومي وتجديد الدماء وضخ دماء جديدة في الجهاز الإداري للدولة، والاستفادة من الكوادر الوطنية المتخصصة في أحدث المجالات العلمية.

إلا أنَّ السؤال الذي يطرح نفسه: هو كيف يتسنَّى لأصحاب الاختصاص ربط مسألة الترقية أو التقاعد بإنتاجية الموظف وأدائه الوظيفي؟ وذلك لضمان حصول هذا الموظف المجتهد والكُفء على حقه.

... إنَّ ربطَ الأجر أو الترقية بالإنتاجية في القطاع الخاص أمر ميسر؛ فهو مسألة تقديرية يقرِّرها أرباب العمل؛ وذلك وفق معيار نمو حجم العمل، ويمكن تحديدها بدقة في حالات معينة، مثل كمية القطع المنتجة بالنسبة للمصانع أو غيره على سبيل المثال لا الحصر، لكننا لا نعرف ما هو المعيار أو الآلية التي يمكن اتباعها لتحقيق هذا الربط بالنسبة للوظائف في المؤسسات الحكومية! فهل الأمر يحتاج تقديم آلية قياس موضوعية؟ مثل: عدد حالات المراجعين، أو عدد المعاملات التي ينجزها الموظف أو وفق معايير ووسائل أهل الاختصاص أدرى وأعلم بها؟ لأنَّ هناك انطباعا سائدا بأن إنتاجية الموظف في القطاع الحكومي متواضعة مقارنة بنظيره في القطاع الخاص. وفي الوقت ذاته، فإن الوظيفة الحكومية هي أيضا ميدان لتباينات كثيرة، فبعض الوظائف تواجهها ضغوط عمل هائلة، وإلى جانبها وظائف أٌخرى تعاني البطالة.

فهل يجُوز لنا أنْ نجعل من معيار الإنتاجية مِقياساً لترقي الموظف أو إحالته إلى التقاعد؟ وذلك أساس على أنَّ يرقَى كل فرد في أي مؤسسة دائماً على أساس قدرته على أداء الوظيفة وتحقيق النتائج، وتستمر عملية الترقية هذه حتى يصل الموظف إلى المستوى الذي لا يستطيع عنده أداء مهام وظيفته بطريقة مرضية، وعند هذا الحد، يتوقف عن الترقي، وتثبت مسيرته المهنية عند هذا المستوى.

ولهذا السبب، يبلغ كل فرد في النهاية مستواه من عدم الكفاءة المهنية، بنهاية مسيرته المهنية. ومن ثم فإن المؤسسات الحكومية أو الخاصة تنتهي بها الحال إلى إدارتها من قبل فريق عمل مكون من أشخاص غير أكفاء.

وقد يُفسر من وجهة نظري هذه مشكلات كثيرة مثل الأداء الضعيف في العمل والإفراط في التمسك بالروتين المؤسسي في القطاعين العام والخاص.

هذا الأمر يحدث في حياة الفرد بالمثل، فعندما يبدأ الموظف مسيرته المهنية، يُطلب منه القيام بعمل يتطلب حل مشكلات ويُحقق نتائج على المستوى المنشود، وعندما يثبت كفاءته في عمله عن طريق حل المشكلات والتغلب على العقبات والتوصل إلى النتائج المرجوة فإنه يترقى تقريبًا بشكل تلقائي إلى مناصب ذات مسؤوليات أعلى.

وحيث إننى تساءلت فى هذه الدراسة، عن أنه: هل يجوز لنا أن نجعل من معيار الإنتاجية مقياسا لترقى الموظف أو إحالته إلى المعاش؟ وعلاوة على ما تمَّ ذكره بهذا الشأن، فيؤيد وجهة النظر الداعمة لأن معيار الإنتاجية يجب أن يكون مقياسا للترقى أو على أقل تقدير الاستمرار فى الوظيفة، إنَّ هناك دراسة إحصائية حديثة أُجرِيت في الولايات المتحدة الأمريكية، وجدت أنَّ العمر الأكثر إنتاجية فى حياة الرجل يقع بين 60 و70 عاما، أما العمر بين 70 إلى 80 عاما فهو السن الثانية فى الترتيب، والعمر الثالث فى ترتيب الإنتاجية يتراوح بين 50 و60 عاما، ومن خلال الدراسة تمَّت ملاحظة أنَّ متوسط عمر الفائزين بجائزة نوبل هو 62 عاما.

ذلك يَعنِي أن الذين يعملون 30 سنة أو دون ذلك فى الخدمة بأى حال لن يكونوا قد بلغوا ذروة الإنتاجية؛ لأنهم قطعا سيتقاعدون دون بلوغهم أي مرحلة من مراحل العمر الثلاثة التى أشارت إليها الدراسة!

وعلى أية حال، فهذه وجة نظر بحثية فكرية، هي أيضًا محاولة أو اجتهاد مجتهد.

تعليق عبر الفيس بوك