جهاز الاستثمار العماني.. نتقدم بثقة

يوسف بن حَمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

www.omaninvestgateway.com

سأبدأ بدون مقدمات ولا تمهيد للحديث عن لُبِّ الموضوع، وهو ما نتمناها من جهاز الاستثمار العماني لنتقدم بثقة في ظلِّ عَالَم متغيراته متسارعة، وتحدياته المالية والاقتصادية جسيمة، لصناعة المستقل بأدوات مختلفة، تُنَاسب طبيعة مرحلة النمو وتحدياته، وتعظِّم الاستفادة من الجاهزية في مختلف الأصعدة والموارد والبنية الأساسية والقطاعات المختلفة.

تناولت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية أصداء إنشاء جهاز الاستثمار العماني بالكثير من الاهتمام؛ كون الاستثمار بشكل عام المكوِّن الأهم في تحقيق التنمية، والأثر المضاعف للاستثمار على الاقتصاد المحلي كبير، وتتركز جميع أدوات السياسات العامة في تحفيز وتنشيط الاستثمار بشقيه العام والخاص، والمحلي والأجنبي.

نتقدم بثقة.. هو شعار رؤية عمان 2040، ويعتبر جهاز الاستثمار العماني إحدى أبرز اللبنات لتحقيقها. فكما يعلم الجميع أنَّ الرؤية تنادي بتحولات جوهرية في مختلف المجالات لن تتكرَّر الظروف والجاهزية لتحقيقها، وتنادي الرؤية بعناوين جديدة لا تتحقق إلا بترابط وتتابع وتفعيل محاور الترشيد والادخار، والاستثمار والإنتاج، والتصنيع والتصدير، وريادة الأعمال والابتكار.

ويعدُّ إنشاء جهاز الاستثمار ككيان استثماري ضخم لجميع استثمارات وأصول الحكومة بصلاحيات واسعة خطوة مهمة لتفادي الكثير من التحديات؛ المتمثلة في تعدُّد المرجعيات وضعف التنسيق والبيروقراطية ومحدودية الموارد وتقليدية الأداء وتواضع نتائجه.

ما نتمنَّاها من جميع الجهات الرسمية كالهيئة العامة لترويج الاستثمار وتنمية الصادرات "إثراء"، والهيئة العامة للتخصيص والشراكة، ومركز الاستثمار، والهيئة العامة لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة "ريادة"، والهيئة العامة للمناطق الصناعية "مدائن" إضافة إلى المناطق الحرة والخاصة، أن تعيد ضبط بوصلتها لتتكامل كفريق واحد مع جهاز الاستثمار العماني لتحقيق هدف واحد هو تكوين منظومه وبيئة أعمال وإطار عام واضح وشفاف لانسيابية الاستثمار المحلي والأجنبي لتشغيل قاطرات النمو المعطلة، أو تلك التي لا تشتغل بكفاءة عالية في جميع القطاعات. وكذلك نأمل من البنوك أن تعي تحوُّلات المرحلة، وأن تلعب دورا إيجابيا لتوجيه المدخرات المحلية باتجاه الاستثمار والإنتاج والعناوين المشار إليها بدلًا من نهم الاستهلاك والكماليات. وكذلك، ندعو القطاع الخاص إلى ترتيب أوراقه المبعثرة، والبدء في الدخول في اندماجات في مختلف القطاعات لتكوين كيانات كبيرة قادرة على تجاوز الأزمة الحالية، وامتصاص أثر الأزمات الحالية والقادمة، وأن نرى دورًا أكبر من كبار التجار في احتضان والتعاون مع رواد الأعمال والأخذ بأيديهم، والانطلاق مع جهاز الاستثمار العماني لسد الفجوات الاستثمارية الكبيرة في السلطنة، والتي يعكسها وضع الحساب الجاري في ميزان المدفوعات العماني.

وما نتمنَّاه كذلك من جميع القائمين على الأطراف المشار إليها نسف العديد من القناعات القديمة الراسخة لديهم، والبدء من جديد في رؤية أبعاد جديدة قائمة على المنطق والفهم العلمي؛ لما يتوافر من مزايا وإمكانيات وعناصر قوة ومقومات؛ فبغضِّ النظر عن تكالب تحديات العجز المزدوج وارتفاع الدين العام وتدني التصنيف الائتماني لا تزال البدائل كثيرة والمساحات للنجاح شاسعة، لكنها لن تتحقق بالقناعات الشخصية، وكما يقال: "إذا كنت تقوم بنفس الأعمال فسوف تحصل على نفس النتيجة".

والمطلوب من الجهاز الوليد؛ كونه يدير عددا كبيرا من الشركات الحكومية في مختلف القطاعات أن يحقق توازنات صعبة ومهمة كثيرًا ما نغفلها بين تحقيق غايات مالية بحتة وموارد ترفد الموازنة العامة، وبين غايات تنموية وهي السبب الرئيسي من إنشاء ووجود الشركات الحكومية لفتح المجال أمام القطاع الخاص المحلي والأجنبي للدخول في قطاعات تفتقر للإحصاءات والتشابكات، ولا يستطيع القطاع الخاص المحلي والأجنبي البدء فيها. لذلك؛ فمن المهم تقييم جميع الشركات الحكومية وإطلاق رصاصة الرحمة على تلك التي انتهى الغرض من إنشائها أو تغيَّرت المعطيات التي تستدعي وجودها. وبالتأكيد، هناك مساحة واسعة لتحقيق اندماجات واستحواذات بين هذه الشركات ومراجعة مصروفاتها التشغيلية ومخصصات العاملين بها.

وما نتمنَّاه من جهاز الاستثمار أن يُباشر العمل من الغد (دون قضاء السنوات في إعداد الدراسات والإستراتيجيات) ليقوم بتحديد المشاريع التنموية العملاقة، والوقوف على الفجوات التمويلية؛ بهدف الاستعانة بالصناديق الاستثمارية الخاصة والحكومية في مختلف الدول وجذبها، والوقوف كذلك على الفجوات الفنية والتشغيلية بهدف الاستعانة بأفضل الشركات المنفذة، وتجميع هذه العناصر في شراكات إستراتيجية مستدامة، تحقِّق العوائد المجزية لجميع الأطراف بهدف حفز النمو وخلق الوظائف ذات الأجر المرتفع.

إنَّنا نحتاج إلى أسلوبِ عمل فعَّال، يتجاوز العقبات البيروقراطية، واستنفار جميع الطاقات، والعمل على مدار الساعة بشغف وفكر متجدد. نعم، هناك حاجة لتغيير الكثير من الثوابت في الأدوات الحالية، والتي أدت دورا مقدرا ومتميزا في المرحلة المنصرمة. وما لا نتمناه كذلك أن نبدأ بسماع الأعذار والتبرير وتقاذف المسؤوليات، وهذا الكلام ليس حصرا على جهاز الاستثمار، وإنما لكل مؤسساتنا وأجهزتنا الحكومية والخاصة؛ إذا كنا ننشد نهضة وطن وبين ما نسمع أننا لا نستطيع وأن سُوقنا صغيرة ونحن نمتلك علاقات طيبة مع العالم، ولدينا موانئ وبنية أساسية غير مستغلة، وأن هناك عزوفًا عن الاستثمار الأجنبي والمحلي بسبب أننا نعرض فرصنا الاستثمارية بشكل مبهم وللفئة الخطأ من المستثمرين، وأن هناك عزوفًا من شبابنا عن العمل الميداني وفي قطاعاتنا التقليدية، وأن الجهات الحكومية غير متعاونة، وأننا ننتظر توجهات عُليا، وأن هناك أيدي خفية تدخل، وأننا ننتظر معجزة من السماء. كل ذلك لن يكون مقبولا، والوضع لا يحتمل التهاون، ونأمل أن يعي القائمون على هذه المؤسسات المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وأنَّ المجتمع العماني يتمتع بوعي كبير وبأسره وراءهم، وأن منعة وعزة وأنفة عمان ثمنها غالٍ، ولن يتحقق بالكلام المرسل ولا الشعارات البراقة. وللأسف الجميع يُردد وأنا منهم أن عُمان لا ينقصها أفكار، أو بنية أساسيه، أو موارد بشرية.. العنصر الأهم الذي ينقصنا هو التنفيذ. ولكن!

فمعادلة الاقتصاد والتنمية واضحة، ولا تستند إلى الحلول المجتزءة؛ لذلك فمن وجهة نظري أن نجاحنا في إدارة الملف الاقتصادي لن تتأتى دون وجود وحدة لسياسات العامة قادرة على صياغة سياسات عامة رصينة لا تغفل الترابطات ولا التشابكات بين الملفات الاقتصادية والاجتماعية، وقادرة على تمهيد الأرضية لجهاز الاستثمار وغيره من الجهات للقيام بالدور المنوط بها، وتحقيق النقلة النوعية المطلوبة. فالتنمية ما هي إلا حزمة من السياسات الاقتصادية المالية والنقدية والتجارية والعمالية والاستثمارية والتجارية والعلاقات الدولية... وغيرها من السياسات التي تحدِّد مسار التنمية وتحفز المتغيرات الاقتصادية للاتجاه المطلوب في سنوات الرخاء (السنوات السمان)، وسنوات الانحسار التي نعيشها (السنين العجاف)، وهنا أودُّ التأكيد على أننا نحتاج إلى أطباء عيون إذا كنا نعاني من مشاكل في العيون، ونحتاج إلى أطباء قلب إذا كنا نعاني من مشاكل في القلب، وكذلك الاقتصاد والتنمية نحتاج إلى المتخصصين لفهم عمق ترابط العلاقات الاقتصادية وتأثيراتها.

إنَّ مؤشرات النجاح لجهاز الاستثمار العماني والأطراف المذكورة المعنية بالإنتاج واضحة، وهي أننا في نهاية العام 2019م كانت لدينا واردات سلعية بقيمة 8 مليارات ريال عماني، وواردات خدميه بقيمة 3 مليارات ريال عماني، وتحويلات العاملين بقيمة 3 مليارات ريال عماني، نريد الحد منها وتقليلها بشكل كبير. وفي الجانب الآخر، لدينا صادرات غير نفطية عُمانية المنشأ بقيمة 3.2 مليار ريال عماني، وإعادة التصدير بقيمة 1.5 مليار عماني، نريد تحقيق قفزات ونمو مزدوج بها. ومن المؤكد أن تحقيق ذلك سينعكس إيجابا على توفير فرص عمل لأبناء السلطنة، ويعالج العجز المزدوج في الميزانية وميزان المدفوعات.

هناك مُفردات يجب على الجهاز العماني للاستثمار مراعاتها، أنَّ مسار النجاح يستوجب تحقيق أعلى درجات الشراكة الممكنة مع مؤسسات القطاع الخاص المحلي، ومع الاستثمار الأجنبي المباشر من أجل التنمية. وأن دور جهاز الاستثمار يجب ألا يغفل كما أشرنا الجانب التنموي وغرس بذور المشاريع الإنتاجية والخدمية في القطاعات المختلفة ورعايتها لتنمو، ومن ثم يبدأ تسليمها للقطاع الخاص المحلي والأجنبي لرفع كفاءتها وتحقيق مكاسب ماليه للجهاز، تمكنه من بدء الغرس من جديد، بشكل أوسع لتحقيق التأثير والنقلة النوعية المطلوبة. وعليه، نرى من الضروري تكثيف مسار جذب والدخول في شراكات إستراتيجية مع شركات الاستثمار الأجنبي المباشر، وبدء التخارج التدريجي من العديد من الشركات الحكومية والخاصة.

البنوك (محلية ودولية) الأفراد (عمانيين ومقيمين) السفارات (عمانية وأجنبية) الشركات (محلية وأجنبية)، كلها مفردات مهمة لا تتحقق التنمية بدونها، وأي إقصاء لأي منها يعني إقصاء لعنصر مهم لوصفة نجاح جهاز الاستثمار العماني. ويُمكن تحويل العناصر المذكورة إلى عناصر نشطة ومساعدة، أو عناصر خاملة ومثبطة، أو إلى غير ذلك؛ من خلال توليفة السياسات التي نتبعها ومدى ديناميكيتها وفهمها لمعطيات مرحلة التنمية التي نمر بها ونسيج الاقتصاد والمجتمع العماني.

وختاما.. لم يَكُن وليد الصدفة ما تحقق في السلطنة من إنجازات ملحوظة على مختلف الأصعدة في العقود الخمسة المنصرمة، ولن تترك لصدفة المرحلة المقبلة التي تتطلب مواصلة البناء على ما تم تحقيقه لمواجهة التحديات الديموغرافية والمالية والاقتصادية التي تلوح في الأفق؛ الأمر الذي لن يتأتى إلا من خلال غرس الثقة في النفوس، وأنه كما تم تجاوز مختلف التحديات في السابق، فإننا نستطيع تجاوزها الآن وفي المستقبل. ويتَّفق الجميع معي أنَّ عُمان تمتلك كل المقومات النجاح والتقدم، فهي كطائرة في المدرج تستعد للانطلاق، وسفينة صغيرة في البحر لابد أن تبحر في ظل ظروف متغيرة قد تكون مواتية، أو قد تكون غير ذلك. سلاحها يجب أن يكون الثقة بمؤسساتها وشبابها، فهم بحارتها، ولابد من الاعتماد عليهم وتمكينهم. وندعو الله أن يجنب هذا الجهاز أشد آفات العصر وهو الفساد بكل معانيه؛ فالفساد هدر للأموال وتعطيل للتنمية، ونأمل أن يشحذ الجميع الهمة لصناعة المستقبل وتحقيق الطموحات. فالمرحلة المقبلة مبشرة في ظل القيادة الحكيمة والجاهزية الكبيرة في البنية الأساسية والتشريعية والمكانة الرفيعة للسلطنة بين الأمم.

تعليق عبر الفيس بوك