أسرار وأزرار اقتصاد ينمو ولا يضمحل

المكرم/ أحمد بن عبدالله الحسني

عُمان منذ اليوم في رحلةٍ طموحةٍ جسورة، مُتعهدةً نفسها كسلطنة جديدة أساسها وقف التبذير "فلا تُسرف ولو من البحر تغرف"، ومنع الكسب غير المشروع وإعلاء راية النزاهة والرقابة على الإنتاجية وتقريب الامتيازات الوطنية وجهاز حكومي رشيق غير مبتلى بسُمنةٍ مُفرطة وشراهةٍ متضخمة، جهاز تدمج فيه الوحدات المتشابهة في منظومات موحدة متكاملة.. رحلةّ تضع النظام الأساسي للدولة بموجهاته ومبادئه الرئيسية هدياً قويماً ونبراساً حازماً لدولة المؤسسات والقانون في قادم مسيرتها المباركة بعون من الله وتوفيقه.

ليس هناك الكثير من الغموض والألغاز في تجارب الدول التي أسست اقتصاديات نموذجية والقدرة على استدامة النجاح فيها، فالنجاح ممارسة يومية يختارها من ينشد النجاح فرداً كان أم دولة ويُفعّل أزرارها من يُريد أن يتقدم، وفي كل يوم هناك تحديات ولكن أيضاً هناك فرص بل وفرص هائلة..

وحيث إنَّ لكل بلد قدرات إستراتيجية معينة يُنّميها ويُضيف عليها في كل مرحلة قدرات أخرى أكبر فإنَّ أول أزرار البناء الاقتصادي المحكم الذي ينبغي كبسه والضغط عليه يتعلق بتساؤل إستراتيجي مهم هو كم مدينة اقتصادية واستثمارية لديك؟ وكم نطاق جغرافي اقتصادي متخصص أفردته واستحدثته، وكم مدينة سياحية أو تجارية أخبرت العالم عنها لتأخذ نصيبها من دورة الأموال والاستثمارات العالمية التي تلف العالم بحثاً عن الجديد الآمن والمستقر من أسواق المنطقة، فمثلما تؤسس الدول مجتمعات عمرانية تبدأ صغيرة بحي أو مربع ثم تنمو وتكبر وتتوسع بمرور الزمن فتتحول إلى مجتمعات سكانية كبيرة ومدن مليئة بالحركة والنشاط والانتعاش فكذا هو الحال بالنسبة للمدن الاقتصادية المتخصصة فلا يضيرها أبداً إن بدأت بشارع أو مبنى، فمعظم ما نشاهده اليوم في كثير من الدول من مراكز جذب عالمية صناعية وتجارية وعلمية وثقافية وسياحية وتكنولوجية وطبية وغذائية كانت يوماً ما وليداً صغيراً لا شيء فيه سوى مصنع يتيم أو مختبر وحيد فهي لم تنزل أو تخلق بالوضع والحال الذي أصبحت عليه.

لذا المهم هو أن يُعلن عن تخطيط وتأسيس وإشهار هذه الكيانات والمجمعات الاقتصادية في إطار نموذج مدن استثمارية متخصصة بحدودها الجغرافية ومجالها ونظامها الاستثماري، أخبر العالم بها وسوّقها وعرفهم بمزاياها التنافسية وألفت الأنظار إليها وستكون الأعوام كفيلة بإزهارها وازدهارها وجذبها لأموال ومشاريع المستثمرين من الداخل والخارج وتأسيس شركات جديدة ومؤسسات متوسطة وصغيرة وتحريك التنمية والقيمة المحلية المضافة وتوليد فرص عمل وشراكات إضافية مع القطاع الخاص وتوطين المعرفة والتقنية وارتفاع الناتج المحلي الإجمالي والقوة الشرائية.

للوهلة الأولى في أوقات الشدة المالية وهكذا بشكل فطري وتلقائي يتوحد الرأي الاقتصادي عند أغلب المسؤولين المخططين منهم والماليين بتأجيل المشاريع الكبرى إلى حين "لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرا" وهم معذورون في ذلك ولا ريب فهذا رد فعل طبيعي خفضاً لمخاطر الإنفاق العام وتوجساً من تحميل الدولة المزيد من التكاليف والأعباء المالية.

 لكن هناك خيط رفيع جداً بين مشاريع حتماً ستنفق عليها وبين مشاريع هي بوابات مشرعة لاصطياد رؤوس الأموال والمشاريع الاستثمارية ودخول الشركات إلى السوق عبرها والمدن الاقتصادية التخصصية هي أثمن البوابات وأوسعها أنشطة وأكثرها تسارعاً في النمو وأطولها عمراً وديمومة ولها بُعد آخر أكثر من كون الواحدة منها مدينة اقتصادية فهي تتحول تلقائياً إلى متنفس ومعلم بارز ومركز جذب وترفيه للمواطن والمُقيم والزائر، وعملياً ماذا عساها ستكون التكلفة إن تمَّ تخطيط منطقة ما بخارطتها وإحداثياتها وإحراماتها وإصدار نظامها ونموذجها الاقتصادي وتسويقها محلياً وإقليمياً وعالمياً، بل حتى مسألة تكلفة أعمال البنية الأساسية الأولية للمنطقة قد تجاوزتها حكومات الدول منذ زمن وفق بدائل استثمارية متعارف عليها بين الدولة صاحبة الأرض والمدينة وبين المستثمرين والمطورين وأصحاب المشاريع الراغبين في أن يكونوا شركاء وجزءاً فاعلاً من هذه المصالح الاقتصادية المتبادلة وكذلك بشأن تكاليف إدارة وتشغيل وصيانة وتطوير المنطقة، فمجمل هذه الهواجس ونقاط القلق التمويلي توصلت تجارب الدول إلى حلول ومعالجات قانونية وفنية لها.

علينا ألا نجعل الوسواس يهزم فرصنا الواضحة ويدفعنا إلى أن نؤخر اغتنام تقدمنا وما لدينا من موارد ونعم متنوعة حبا الله بها بلادنا في كل شبر منها وتأجيلها أكثر مما قد تأجلت ولمدد وآجال مفتوحة، علينا أن نفكر ونعمل بعكس ما هو شائع في أوقات الشدة المالية بتجميد المفاتيح التي تفتح للدولة الأبواب المغلقة التي يأتي منها المال والاستثمار ويُقبل التجار ورجال الأعمال الذين في ظروف الطوارئ الاقتصادية الإقليمية والعالمية يبحثون عن ملاذات وفرص جديدة يضعون فيها أموالهم وينقلون إليها شركاتهم، فمن يعلن للعالم أنَّه قام بتأجيل منافذه فهو كمن وجه الرسالة الخطأ بإغلاق أبوابه ونوافذه على نفسه فحكم على موارده وسوقه بالسجن ولم يسمح لسوقه بأن يتنفس وتصله الأموال والاستثمارات والفرص.

تقنياً وبحثياً وابتكارياً وتعليمياً وطبياً وغذائياً كم منشأة وكم مركز ومجمع ومختبر ومشروع تناثر تأسيسها هنا أو هناك وما يزال نفس النهج مستمراً في مرافق وقطاعات أخرى في حين كان الأجدى كثيراً أن تكون هذه المنشآت هي بواكير وبشائر مدنها المتخصصة كل في مجاله وموقعه الاقتصادي والتنموي الصحيح ويضاف عليها الجديد حيث سيرى المستثمر رأي العين حياة وحركة ملموسة في المدينة المؤسسة فينضم شريكاً جديداً فيها بأحد مشاريعه أو نقل إحدى شركاته إليها من الصين أو الهند أو من أماكن وأسواق أخرى.

ختاماً لم يفت الوقت بعد ولكن عسى ألا نتأخر لأشواط إضافية فمضمار التنافس يتطلب مهارات الوثوب، والاقتصاد الذي فيه صمامات الأمان الواقية ضد تقلبات الأزمان هو اقتصاد المدن الاستثمارية المتخصصة التي تحلق بالدولة بجناح قوي وتكون المدن العمرانية الحضرية جناحها الثاني فيطيران معاً نحو المستقبل بكل توازن وأمان، فكم جميل أن تؤسس بلادنا منطقة ومحمية الخيران بمحافظة مسقط كمدينة لأجمل وأندر وجهة للسياحة الطبيعية الخضراء الصديقة للبيئة ومنطقة النجد الزراعية في محافظة ظفار كمدينة خيرات عُمان تتكامل مع توأمها مدينة خزائن اللوجستية والغذائية بمحافظة جنوب الباطنة التي تمضي أمورها قدماً ولله الحمد ومدينة الاستثمارات والمختبرات الطبية ومدينة العلم والتقنية والمدينة الثقافية الدائمة للفعاليات والمهرجانات والصناعات التراثية، وجميعها ستكون بإذن الله قواعد وأركان اقتصادية راسخة ومكينة لاقتصاد لا يمكن أن يضمحل..

تعليق عبر الفيس بوك