التحول الرقمي.. المفهوم والأبعاد والضرورة

يوسف بن حمد البلوشي

أبرزت الأزمة الحالية- جراء تداعيات فيروس كورونا وتدهور أسعار النفط وانحسار الطلب العالمي والعولمة بشكل عام- أهمية قطاع التقنية والاتصالات في ضمان استمرارية الأعمال والإنتاجية لمختلف القطاعات، والذي يعتبر الرابح الأكبر نسبياً في ضوء جاهزيته ودوره في التعامل مع الكثير من التحديات على مختلف الأصعدة.

وفي نفس السياق فإنَّ التغيرات المتسارعة الناتجة عن معطيات الثورة الصناعية الرابعة وزخم الثورة المعلوماتية والتجدد السريع في المعرفة الإنسانية وثورة الاتصالات والتواصل وإسقاطات كل ذلك على كل مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها تدعو إلى تمكين قطاع التقنية والاتصالات كونه يمثل الطريق إلى المستقبل.  ففي السياق الاقتصادي هناك تغير كبير في الأهمية التقليدية لعوامل وعناصر الإنتاج الأربعة المعروفة، وهي رأس المال والأرض وما تزخر به من موارد والعمل والتقنية والتكنولوجيا حيث أصبحت التقنيات أهم عوامل الإنتاج على الإطلاق. وستكون لتطبيقات الثورة الصناعية الرابعة من ذكاء صناعي وإنترنت الأشياء والروبوتات وتحليل الكتل الرقمية والطباعة ثلاثية الأبعاد وغيرها دور كبير للوصول إلى القفزات النوعية في جميع القطاعات.
وفي السياق المحلي، يصنف بعض المتخصصين درجة استغلال الموارد في السلطنة إلى ثلاث فئات حسب درجة الاستغلال وهي إما أنها موارد غير مستغلة أو مستغلة بشكل خاطئ أو أنها مستغلة بشكل جزئي. ويعزى ذلك من بين عوامل كثيرة إلى ضعف المكون التكنولوجي والكفاءة والإنتاجية والاعتماد على أدوات تقليدية وعمالة متدنية المهارة. ولذلك يجب أن نتناول التحول الرقمي من مفهوم أكثر عمقاً يتعدى استحداث وتمويل منصات إلكترونية لبيع الخضروات والفواكه والأسماك إلى إحداث تغيير جوهري لدفع وتمكين التحولات في القطاعات المختلفة وحل القضايا المحلية العالقة في السلطنة لاسيما تلك المرتبطة بالتوظيف، وازدياد العمالة الأجنبية غير الماهرة، وقلة الإنتاج الصناعي، واستخدام المواد الخام في الصناعات المحلية. ويلعب التحول الرقمي دورا كبيرا في الوصول إلى القفزات النوعية في جميع القطاعات، ويملك الإجابة على أسئلة هامة لنا في السلطنة ماذا ننتج، وكيف ننتج، وأين ننتج ومتى ننتج؟. والحديث هنا عن الصناعة الذكية والزراعة الذكية، وصيد الأسماك بأساليب تقنية ذكية. فضلاً عن تشجيع شبابنا ورواد الأعمال في تكييف هذه التقنيات وتوظيفها في سياقات مشابهة خارج حدود الوطن، بحيث تستطيع الشركات العمانية المتخصصة تصدير حلولها لخدمة متطلبات السوق العالمي الذي أضحى أكثر ترابطاً وانسجاماً بفضل هذه التقنيات.

هذا، ولقد أفردت رؤية عُمان 2040 مساحة واسعة لأهمية نشر التكنولوجيا في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وقد حددت الرؤية أحد أهدافها بالوصول إلى مدن ذكية ومستدامة نابضة بالحياة، تتضمن نمط الحياة الذكية، والبيئة الذكية والتنقل الذكي. وتم تخصيص برنامج خاص من بين البرامج الوطنية الخمسة في تحقيق الرؤية، للتحول الرقمي الذي يستهدف اتخاذ إجراءات عملية للتحول الإلكتروني للحكومة والقطاع الخاص والمجتمع وتوفير المنصات الإلكترونية الآمنة للتعاملات الإلكترونية. والاستفادة من تقنيات الثورة الصناعية الرابعة في التعامل مع تحديات سوق العمل وغيرها. ويتفق الجميع أنَّ التقنية ممكن لا غنى عنه لجميع القطاعات وهو القطاع الأقرب إلى قلوب الشباب. وتلعب التقنية أدوارا مهمة في تحقيق التنويع الاقتصادي، والنهوض بالقطاع الخاص المحلي، وذلك من خلال إدخال التقنية الجديدة، والابتكار، وتوفير المعلومات، وإجراء الدراسات والمسوحات حول جدوى الاستثمار في بعض القطاعات الاستراتيجية، مثل التعدين والأسماك وغيرها. ولابد من التركز على إعطاء عناية كبيرة للجانب التقني في جميع التحولات الاقتصادية والاجتماعية المستهدفة في المرحلة القادمة، من خلال معرفة التحديات وطرق معالجتها وفيما يتعلق بالبيانات والمعلومات وإيجاد طرق مُبتكرة وتصاميم حديثة غير تقليدية لتوزيع المعلومات والخدمات والمنتجات وتحديد العملاء والمستفيدين. وهناك ضرورة ألا يقتصر التحول الرقمي على قطاع تكنولوجيا المعلومات وإنما يجب أن ينتشر على جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية كالتعدين والتصنيع والسياحة والتعليم والصحة وغيرها من القطاعات وكذلك يجب أن يشمل جميع الشرائح الحكومة والأفراد والقطاع الخاص.

ولكيلا تبقى خططنا واستراتيجياتنا الرقمية وثائق نظرية منذ عام 2005، ومحكومة بصيغ الغايات والتوجهات والنظريات الفرضية، ولضمان تحقيقها فإنه يجب أن يتزامن معها إدارة محكمة للتغيير من شأنها أن تسهم وتمهد الطريق لتحقيق التحول المنشود بحيث يتم تحديد نسبة مئوية للخدمات الحكومية التي سيتم نقلها لقنوات رقمية بشكل سنوي تنتهي برقمنة مختلف الخدمات الحكومية المُقدمة. إلى جانب الاهتمام بالمواهب الرقمية ورعايتها وتوجيهها. . ومن المهم أن نذكر هنا بأهمية الأمن السيبراني الذي يضمن حماية مختلف جوانب عمليات التحول الرقمي لمُواجهة الهجمات الإلكترونية. وفي هذا السياق فإنَّ السلطنة تحتل المرتبة الثانية عربيًا، والسادسة عشر عالميا من بين 175 دولة في مؤشر الأمن السيبراني الصادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات للعام 2019.

إنَّ ما لا يُمكن قياسه لا يمكن إدارته، وهذه قاعدة حياتية تسري على جميع القطاعات، ويعاني قطاع التقنية في السلطنة من قلة الإحصاءات المحلية وضعف القدرات التسويقية وعدم توافر المنتجات الاستثمارية الجاذبة لشركات التقنية العالمية ولننجح في هذا القطاع يجب أن نكون قادرين على قياس تقدمنا فيه وهناك حاجة ملحة للاهتمام بتوفير إحصاءات الحساب الفرعية (ستلايت اكونت)  لعزل هذا القطاع الذي يقع ضمن قطاع واسع هو "النقل والتخزين والاتصالات" بحسب نظام الحسابات القومية المعمول به، بهدف معرفة مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي، وإيجاد فرص عمل، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتمكين القطاعات الاقتصادية من النهوض. وكما هو معلوم يتكون قطاع تقنية المعلومات والاتصالات من قطاعين فرعيين الأول قطاع تقنية المعلومات والذي على ما يبدو يتم إغفاله في تقدير إجمالي القطاع نظرا لحصته المتواضعة من إجمالي القطاع في السلطنة، حيث تشير التقديرات إلى أنه يستحوذ على ما يقل عن 20% من إجمالي القطاع. والثاني قطاع تقنية الاتصالات، والذي يضم البريد والاتصالات ويستحوذ على النسبة المتبقية من القطاع (ما يزيد عن 80.0%).

كما يعاني هذا القطاع كغيره من القطاعات من أن الفرص الاستثمارية به لا تزال مُبهمة للمستثمر المحلي والأجنبي، وهذا أمر يتعين التعامل معه بأسلوب مختلف إذا ما كنَّا نؤمن بالعولمة ونسعى إلى استثمار العلاقات الدولية الطيبة للسلطنة. وهنا من المهم الإشارة إلى أن قطاع التقنية والاتصالات قطاع ديناميكي وأننا نحتاج لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر والدخول في شراكات استراتيجية مع دول وشركات تقنية عالمية. الأمر الذي يتطلب وجود فرص استثمارية جاهزة بكل جوانبها في قوالب مناسبة مصحوبة بحزمة غير تقليدية من الحوافز من شأن أن يساعد السلطنة في الدخول في شراكات اقتصادية إستراتيجية مع دول وشركات دولية وتركيز على قطاع التقنية والاتصالات في السلطنة، بما يعظّم حجم الاقتصاد، ويوسّع قاعدته الإنتاجية، ويخلق منظومة يعمل بها الجميع بتكامل وانسجام. وهنا قد نحتاج إلى توسيع وتعزيز رأس مال ونشاط صندوق التكنولوجيا لتسريع الاستثمار في هذا القطاع الهام. وهناك حاجة ملحة لتطوير الجانب التشريعي والقانوني الذي يجب أن يتسم بالديناميكية والاستباقية ليتماشى مع سرعة وتيرة التغيرات في هذا القطاع. وهناك أهمية لوجود خطة واضحة المعالم للنهوض بهذا القطاع المفصلي، أين نحن وإلى أين نتجه في هذا القطاع. وأهمية وضع مؤشرات أداء واضحة لقياس الإنجاز والتقدم المحرز وتصميم حزم حوافز ومنتجات استثمارية لقطاع التقنية والاتصالات لاجتذاب المستثمرين المحليين والدوليين.

وقد نحتاج إلى قرار سيادي حازم من قمة الهرم يرغم جميع الجهات الحكومية الرئيسية بالتحول التقني بنهج شمولي وضرورة مواكبة التغيرات المتسارعة في العالم في هذا المجال وإمكانية رفع الكفاءة والفاعلية للخدمات الحكومية المقدمة وتخفيض كبير في النفقات المالية والموارد البشرية لعدم وجود حاجة لتكرار نفس الأعمال في الجهات المختلفة. كما أن من شأن التحول إلى حكومة إلكترونية أن يمكن من تجميع البيانات والمعلومات ودمجها وتحليلها بما يوفر حلولا للتحديات الحالية والمستقبلية لعُمان وذلك من خلال القدرة على استخدام أساليب حديثة لتحليل البيانات الضخمة المتوفرة. ومن جانب آخر فإنَّ كل ذلك يسهل من تحقيق قدر أعلى من الأمن المعلوماتي والمحافظة عليه في جهة مركزية واحدة. والجدير بالإشارة أنَّ بداية الانتقال للحكومة الإلكترونية يجب أن يصاحبه حملة إعلامية شاملة وتوفير حوافز لجميع المتعاملين وإجراءات صارمة من قبل قمة الهرم الإداري.

وإسقاطاً لما ورد في هذا المقال فإني شديد الإيمان بأن عُمان قادرة على تحقيق قفزات تنموية بوتيرة متصاعدة. إلا أن الأمر لن يحدث تلقائياً ويتطلب التعلم من تجارب الآخرين كالتجربة الكورية ووضع الأسس والقواعد الضرورية لذلك وماعدا ذلك سيكون الأمر ضرباً من أحلام اليقظة وسنظل ندور في فلك مُغلق حتى تنفذ هذه الثروة التي مكنتنا من العيش في رغدٍ لمدة خمسة عقود وهي مدة كافية لنتعلم وننهض وننتقل إلى طور ونموذج من النمو معادلته بسيطة وهي الإيمان بأننا نستطيع وأن عمان تمتلك كل المقومات والأدوات التي تحتاجها ونتوقف عن الكلام ونبدء العمل ولقد تمَّ بناء هذا البلد بتأنٍ وأرسي بقواعد صلبة وجسور مع دول العالم لنتمكن من الدخول في شراكات استراتيجية مع من نريد من الأمم وفي القطاعات التي نريدها. وختاماً فإن عُمان سفينة صغيرة تستطيع الانطلاق بسرعة نحو الرؤية التي تريدها بشرط أن نجدف معاً  في نفس الاتجاه ونعمل بروح الفريق الواحد لتحقيق مستقبل واحد. إن العالم يمر بظروف استثنائية ونحن كذلك ويتطلب الأمر استنفار الطاقات وحشد الهمم وتنظيم الصفوف والعمل على مدار الساعة وبوتيرة لا تكل وعزيمة لا تلين.