عالم ما بعد الكورونا

 

عبيدلي العبيدلي

فرضت الحروب المسلحة، الخارجية بين البلدان، أو الداخلية في نطاق البلد الواحد نفسها كأكبر عامل مغير لحركة التاريخ. وشكلت نتائجها على أرض الواقع "إلهامًا" للكثير من المحللين الاستراتيجيين الباحثين عن وضع مقاييس محددة، لتصنيف مواقع قوى العالم على خارطة الكون الجيوسياسية.

على سبيل المثال نصبت الحروب التي رافقت الثورة الصناعية الأولى، ونتائجها التي تمخضت عنها بريطانيا كالدولة العظمى المسيطرة على العالم والمحركة لعلاقاته الدولية.

وكما تشير المصادر "شملت الإمبراطورية البريطانية دولا ذات سيادة خاضعة لتاجها ومستعمرات ومحميات ودولا تحت الانتداب وغيرها من الملحقات حكمتها أو أدارتها المملكة المتحدة أو الدول التي سبقتها. وقد برزت الإمبراطورية البريطانية مع ظهور ممتلكات ومحطات تجارية أسستها مملكة إنجلترا بين أواخر القرن 16 وأوائل القرن 18. وعدت في ذروتها أنها أضخم إمبراطورية في تاريخ العالم حتى الآن، وكانت لأكثر من قرن القوة العالمية الأولى".  

تكرر الأمر تغير بعد الحرب الكونية الثانية، عندما باتت الولايات المتحدة كقوة رأسمالية عظمى تشاطر السيطرة على مقدرات العالمي مع كتلة استعمارية أخرى هي الاتحاد السوفياتي، وعاش العالم تحت نفوذ، ومخرجات الصراع المحتدم بين تلك القوتين العظميين، التي عبرت عنها ما عرف باسم حقبة الحرب الباردة.

يلوح اليوم في أفق العلاقات الدولية ما يمكن أن نطلق عليه "عالم ما بعد الكورونا".

إذ تتوقع العديد من المصادر التي تراقب حركة العلاقات الدولية التي يحتمل أن تشكل الخارطة الجيوسياسية للعالم المقبل، أنّ الإفرازات التي سوف يتمخض عنها فيروس الكورونا أو "كوفيد – 19"، ستكون حاسمة في تصنيف موقع كل دولة في سلم تلك العلاقات، من خلال الحقائق التي سوف تفرضها على تلك الخارطة.

أول تلك الحقائق، هي مرحلة ما أطلق عليه نظام عالم "القطب الواحد"، الذي كانت تمسك مفاصله الرئيسة الولايات المتحدة. وربما من المبكر اليوم تخيل الصورة التي ستؤول لها خارطة العلاقات الدولية، لكن المؤكد بشأنها أنّ الولايات المتحدة ستتنحى من منصب التفرّد الذي نعمت به في أعقاب تهاوي الكتلة السوفيتية في الربع الأخير من القرن العشرين.

ومن ثمّ فالعالم الجديد، لن يكون أحادي القطب، ولا ثنائيه، إذ توحي المؤشرات ببروز عالم متعدد الأقطاب، لن يكون حكرًا على دول نصف العالم الغربي، كما ساد منذ القرن السادس عشر.

إذ بدأت دول آسيوية كبرى مثل الصين تطل برأسها، باحثة عن مقعد "تستحقه" بين صفوف الدول العظمى، ومن بينها الولايات المتحدة، وربما روسيا.

الحقيقة الثانية، ومرتكزاتها الاقتصادية.

وكما يلخص الكاتب محمد أحمد عبد المعطي، ثمّة تحول في ميزان القوى الاقتصادية العالمية لصالح الدول الصاعدة اقتصادياً، وتحديداً قارة آسيا، ليصبح هذا القرن آسيوياً بامتياز في ظل ما ستحققه اقتصادات دولها من معدلات نمو وطفرات تنموية عالية".

هذا ملخص للكاتب عبد المعطي، لتقرير موسع صادر عن شركة "برايس ووترز كوبر (PWC) البريطانية المتخصصة في الأبحاث والدراسات الاقتصادية، الموسوم "العالم في 2050".

وإذا قيست القوة الاقتصادية وفق معايير مثل حجم الناتج الإجمالي المحلي، والمستوى المعيشي، والنمو، والإيرادات المالية، فنجد موقع "العربي الجديد"، ينقل عن تقارير دولية الصورة التالية، "وتمكنت الولايات المتحدة لسنوات من احتلال المركز الأول عالمياً، ويصل الدخل القومي في الولايات المتحدة إلى نحو 18 تريليون دولار، يشكل نحو 24.3% من الاقتصاد العالمي. في المركز الثاني، تأتي الصين، كأقوى اقتصاد عالمي، ويصل الدخل القومي في الصين إلى نحو 11 تريليون دولار، مشكّلاً ما يقارب 14.8% من الاقتصاد العالمي. في المركز الثالث كأقوى اقتصاد عالمي، تأتي اليابان، حيث يصل الدخل القومي إلى نحو 4.38 تريليونات دولار، مشكلا بذلك نحو 5.9% من الاقتصاد العالمي".

يكشف ذلك التقرير اقتراب اقتصادين آسيويين من الاقتصاد الأمريكي. لكن جاء فيروس الكورونا، كي يعري الكثير من مواطن الضعف في هذا الأخير لصالح الاقتصاد الصيني، من خلال أرقام الإصابة، واحصاءات الوفاة، وكفاءة الأداء، عند مواجهة كوارث مفاجئة، بحجم تلك التي فرضها انتشار جائحة الكورونا.

فمواطن الضعف لدى الاقتصاد الأمريكي، والقوة التي بحوزة نظيره الصيني تكشف التفوق لصالح هذا الأخير. ومن ثم فما ستتمخض عنه نتائج تلك الجائحة تضع الصين في المقدمة، ومن ثمّ تراجع واشنطن اقتصاديا، الأمر الذي من شأنه إحداث انقلاب جذري في موازين القوى في موازين التنافس الدولي، على زعامة العالم.

الأمر الذي يضاعف من قيمة مؤشرات تلك النتيجة لصالح القارة الآسيوية، هو أن اليابان تأتي في المرتبة الثالثة، متجاوزة ألمانيا، وبريطانيا.

 وعلى المستوى العسكري، وحسبما تناقلت العديد من المواقع الإلكترونية، عن مراكز دراسات غربية رصينة "احتاجت الولايات المتحدة في العام 2010 إلى تقديم موارد عسكرية أكبر بعشر مرات من عام 1996 لمساعدة تايوان، وفي عام 2017 خلصت الدراسة إلى أنّه في العديد من السيناريوهات، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على مواجهة الغزو الصيني في الوقت المناسب أو بتكلفة مقبولة.  ويعزى ذلك، إلى تقدم الصين المذهل في مجال الصواريخ جو -جو، والصواريخ أرض - جو وغيرها من الذخائر الموجهة بدقة، إلا أنّ الفرق المهم بين هذه التقنيات والجيل القادم من الأسلحة المتقدمة هو أنّ الصين لن تعود متأخرة بـ 25 سنة تكنولوجيا، بل ستكون قادرة على التنافس من خط الانطلاق نفسه، وبالتالي فإن إعادة التوازن العسكري لا بد أن تعرف تسارعا كبيرا".

وجاءت جائحة الكورونا، كي تكشف التفوق التقني العسكري الصيني في التصدي لأزمات مثل تلك التي ولدها ذلك الفيروس، حيث جيرت تقنيات بحوزة ذلك الجيش مثل الجيل الخامس من تقنية الاتصالات (5G)، وحجم البيانات الضخمة (Big Data)، سوية مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي (AI)، جميعها كشفت مؤهلات الصين المتفوقة على نظيراتها الغربيات، بما فيها واشنطن.

وهذا ما أهل بكين للخروج بأقل الخسائر الممكنة -نسبيا- مقارنة مع الدول الأخرى - بما يؤهلها لأن تكون في مواقع متقدمة في المستقبل المنظور، عندما تجرى مقارنات بين من يتبوأ مراكز الدول العظمى عالميا.

ربما تكون ملامح ذلك التقدم لاحت في الأفق، لكن جاءت جائحة الكورونا كي ترسخها.

 ويبقى السؤال الملح الذي يفرض نفسه باستمرار ونحن، كعرب نراقب مثل تلك التحولات: كيف ننظر نحن العرب لها، وكيف سنضع مشروعاتنا العربية الاستراتيجية - المستقبلية كي تسير في اتجاه متناغم مع عالم مبعد الكورونا، وليس في آخر عكسي متناقض معها؟

تعليق عبر الفيس بوك