حلول ممكنة لتحديات أسواق العمل

 

 

ناصر الحضرمي

 

تشكل هياكل أسواق العمل بدول مجلس التعاون مصدراً للقلق في الوقت الراهن. فقد بلغت نسبة السكان الخليجيين القادرين على العمل - ممن هم في الفئة العمرية من 15 إلى 64 سنة- 64.4% من إجمالي السكان لعام ٢٠١٦، حسب التقرير السنوي الصادر من المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام ٢٠١٨. ومع استمرار النمو السريع لهذه الفئة، وتزايد أعداد الباحثين عن العمل، وبلوغ الحد الأقصى من التوظيف في القطاع العام، وفي ضوء تحديات أزمتي كورونا والتدني الحاد لأسعار النفط، اللتين أثرتا بشكل كبير على اقتصادات وأسواق عمل دول المنطقة، فإنّه يتحتم إجراء العديد من الإصلاحات والسياسات الرامية لجعل القطاع الخاص قطاعاً منتجاً وجاذباً وقادراً على خلق فرص عمل أكثر، على اعتبار أن القطاع الخاص هو المعول عليه ليكون المشغل الرئيس للقوى العاملة الوطنية.

وبالرغم من إجراء العديد من الإصلاحات في أسواق دول مجلس التعاون في السنوات الأخيرة الماضية، وبالرغم من التدابير الاحترازية التي اتخذتها حكومات دول المجلس في الفترة الحالية من أجل دعم القطاع الخاص، والحفاظ على استقراره، والخروج بأقل قدر ممكن من الخسائر بسبب الجائحة، إلا إن الأمر يتطلب المزيد من الاصلاحات الشاملة. ومن أهم هذه الاصلاحات إعادة توجيه اقتصادات دول المجلس نحو التنويع الاقتصادي؛ بهدف بناء اقتصادٍ مستدام للأجيال الحالية والمستقبلية، بعيداً عن تقلبات النفط. إذ ستؤدي هذه العملية إلى فتح مجالات ومشاريع جديدة ذات قيمة مضافة أعلى، وقادرة على توفير فرص عمل أكثر إنتاجية للأيدي العاملة الوطنية. ولا يتأتى ذلك إلا عبر إرساء بيئة أعمال مرنة ومنفتحة وجاذبة لرؤوس الأموال والاستثمار الأجنبي. ويمكن في هذا السياق الاسترشاد بالتجارب الدولية الرائدة في مجال تنويع الاقتصاد.

وبالإضافة إلى التنويع الاقتصادي، ينبغي تطوير قوة العمل وزيادة كفاءتها، بما يجعلها قادرة على قيادة دفة القطاع الخاص. ويتحقق ذلك عن طريق رفع مستوى التعليم والتدريب، بغية تنمية مهارات القوى العاملة الوطنية، ومواءمتها مع متطلبات سوق العمل في المرحلة القادمة التي ستشهد ظهور الكثير من أنماط العمل الجديدة، حسب تقرير منظمة العمل الدولية: "العمل من أجل مستقبل أكثر إشراقاً". فبالرغم من تزايد الانفاق على التعليم في دول المجلس، إلا أن هناك فجوةً بين مخرجات التعليم نوعاً وكماً، وبين ما يحتاجه سوق العمل من المهارات. لذا، يجب على التعليم أن يتخلص من جموده ليتمكن من إعداد الطلاب لوظائف الغد، وأن يكون أكثر مرونة لتلبية احتياجات القرن الواحد والعشرين من القوى العاملة.

كما يتعين مراجعة سياسات الاستقدام، وإجراء الإصلاحات اللازمة للتقليل منه، والتركيز بالمقابل على استقدام القوى العاملة الأجنبية الماهرة والمتخصصة، بضوابط محددة تمنع استقدامهم إلا بعد التأكد من وجود حاجة فعلية لهم، وعدم وجود قوى عاملة وطنية يمكنها تلبية تلك الحاجة، مع تفعيل منظومة المعايير والاختبارات المهنية. فتقليل الاعتماد على القوى العاملة الأجنبية ذات المهارة المنخفضة من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع الأجور، وجعل التوظيف في القطاع الخاص أكثر جاذبية للمواطنين الباحثين عن عمل من ذوي المهارات المماثلة. كما أن رفع القيود أمام تنقل القوى العاملة الأجنبية داخلياً سيسهم في الحد من عملية الاستقدام، عبر الاعتماد على الخبرات الموجودة بالداخل، ما سيؤدي إلى خفض كلفة الاستقدام، وزيادة مستوى الإنتاج. وبالرجوع إلى سبب تواجد القوى العاملة الاجنبية بأعداد كبيرة في منطقة الخليج، نجد أنه في خضم فترة الرواج النفطي في السبعينات من القرن الماضي، ومع قلة أعداد السكان الذين هم في سن العمل، قررت دول مجلس التعاون الخليجي استقدام القوى العاملة على نطاق واسع لتحقيق الأهداف الإنمائية -المتمثلة في بناء وتطوير البنية التحتية والخدمات- لتلبية متطلبات التنمية والتوسع المدني. وقد أدى ذلك إلى نشوء وترسيخ الاعتماد على تدفقات القوى العاملة الأجنبية منذ ذلك العهد، واطراده مع تقدم عجلة النمو والازدهار في دول المنطقة. إلا أنه مع ارتفاع عدد السكان المحليين ممن هم في سن العمل، وتزايد أعداد الباحثين عن عمل، أصبح لزاماً على حكومات دول المجلس مراجعة سياسات الاستقدام، وإصلاحها بما يتناسب مع أسواق عملها، وحاجة مواطنيها للعمل.

كما يمكن لاستحداث صندوق إعانات دعم الأجور في القطاع الخاص بصورة مؤقتة، مساعدة القوى العاملة الوطنية ذات المهارات الوظيفية متدنيةِ أو محرومة المهارات للحصول على وظائف، ومنافسة القوى العاملة الأجنبية في القطاع الخاص، وذلك عن طريق التضييق من تفاوت الأجور بين القوى العاملة الوطنية والأجنبية. وسيساعدهم ذلك في اكتساب مهارات وظيفية، وسيعزز من إنتاجيتهم، خصوصاً إذا ما اقترن بالتدريب على رأس العمل. ورغم أن إعانات دعم الأجور مكلفة، إلا أن الإعانات الموجهة بدقة، وذات الطابع المؤقت، يمكنها أن توفر فرص عمل أقل تكلفةً من خلق فرص عمل في القطاع العام. كما يمكن لدول المنطقة وضع حد أدنى للأجور للقوى العاملة الأجنبية، أسوةً بالقوى العاملة الوطنية، في القطاعات التي ترغب بتشغيل المواطنين فيها، بحيث تكون تكلفة القوى العاملة الوطنية أرخص من القوى العاملة الاجنبية، ما سيشجع أصحاب العمل على توظيفهم.

وهناك الكثير من الإصلاحات المتعلقة بتوفير المزيد من الحماية الاجتماعية، والتي من ضمنها خلق صناديق وبرامج متعلقة بالتأمين ضد التعطل. حيث تعمل هذه البرامج على توفير الحماية الاجتماعية للمؤمن لهم خلال فترة التعطل عن العمل لظروف خارجةٍ عن إرادتهم، وسد الفجوة الانتقالية بين الوظيفة السابقة والحصول على وظيفة جديدة، وذلك بتوفير حد أدنى من الدخل، بالإضافة الى مساعدتهم في البحث عن عمل آخر. وفي سياق تنفيذ هذه الإصلاحات، ينبغي مراعاة الاتساق بين الأهداف قصيرة الأجل والأهداف متوسطة الأجل، ووضع خارطة طريق قابلة للتطبيق، تشترك فيها جميع الجهات المعنية، كالوزارات والوحدات المعنية بالاقتصاد، والمال، والاستثمار، والتجارة، والتخطيط، والتعليم، والتدريب، ومنظمات أصحاب الاعمال، والعمال، والمجتمع المدني، وغيرها.

 

تعليق عبر الفيس بوك